بعد أن استولي الشاب الإخواني مالك على مقود سيارة ترحيلات الشرطة التي ظلت تجوب القاهرة لساعات يوم الثلاثين من يونيو 2013 وبداخلها معتقلين من كافة الأطياف صحافيين وإخوانا وأناس عاديين زج بهم في أتون معركة/ثورة أعدت لها الأجهزة بليل، وجمعتهم الصدفة أو الحظ العاثر ذلك اليوم في سيارة ترحيلات معتقلين بتهمة أنهم "إخوان"، وعند الاقتراب من المظاهرات التي كانت تملأ الشوارع، تتعالى الصيحات من داخل السيارة تطالبه بالتوقف تارة وبالإسراع بالابتعاد عن المتظاهرين تارة أخرى حسب الحالة النفسية للمحتجزين داخلها وما يتنادى إليهم من شعارات من الخارج.
فيلم اشتباك (2016) للمخرج محمد ذياب.
معتقل: المظاهرة ده تبعنا..
معتقل: لأ.. ده تبعهم هما.
حسين: المظاهرة ده تبعنا احنا.
حذيفة: (ومعه مجموعة من الإخوان).. وقف يا مالك.. وقف العربية.
منص: كمل يا مالك.
نجوى: (بصوت خائف) كمل يا مالك..
معتقل: المظاهرة ده تبعنا.. إسلامية إسلامية..
آدم: لو رحنا أي مظاهرة دلوقتي حنموت.. اسمع كلامه.. اسمع الكلام....
رضوان: المظاهرة مش بتاعت الإخوان.. والله احنا معاكم.. احنا معاكم.. والله العظيم.. تسلم الأيادي.. تسلم الأيادي.. تسلم الأيادي.
حذيفة: (من نافذة أخرى) احنا معاكم.. إسلامية إسلامية.. يا رجالة إحنا معاكم..
في الخارج صراع بين مختلف المتظاهرين وصراخ من داخل سيارة الترحيلات وشعارات من هنا وهناك تختلط فيها الكلمات (خونة خونة.. إسلامية إسلامية....) حتى يتم اقتحام السيارة.
معتقل: حد يقفل الباب...
في الأخير، تحولت سيارة الترحيلات/الزنزانة إلى الملجأ الوحيد للمحتجزين داخلها للاحتماء من الفوضى المسيطرة في الشارع المصري.
ومنذ ذلك اليوم وما تلاه من انقلاب واعتقالات ومذابح صارت الضبابية في الرؤية والاستقطاب الحاد والتخوين والرضا بالسجن الكبير/مصر العسكرية بديلا عن فوضى وإرهاب محتملين تحولا مع الأيام لمكون أساسي من جدول الحياة اليومي للمصريين.
إن نجح الانقلاب العسكري ومختلف أذرعه "السياسية والإعلامية والاقتصادية" في مهمة فهي بالذات تحويل المصريين إلى فرقتين كبيرتين، تتخللهما فرق وطرائق شتى، تعتمدان التخوين والاتهام بالعمالة أو الانبطاح للبيادة العسكرية شعارات لها لا ترضى التنازل عنها، رغم كل الحقائق التي تبدت للجانبين وكشفتها التسريبات والاعترافات والأفعال على الأرض.
وبعد أن حظرت جماعة الإخوان التي كانت إلى عهد قريب تعتبر عصب الحراك الاحتجاجي بمصر، صار الانتماء إليها تهمة تتنافس أجهزة الدولة وقطاعات واسعة من الشعب في إلصاقها بكل من ارتفع صوته مناديا ضد تجاوزات العسكر وجرائم النظام.
داخل سيارة الترحيلات، وبينما مجموعة من المعتقلين داخلها، يحاول الصحفي آدم ومعه المصور زين تصوير المحتجزين دون معرفتهم بواسطة كاميرا صغيرة ملحقة بساعته اليدوية. يتنبه أحد المعتقلين للأمر.
صلاح: انتو بتعملوا ايه؟
زين: مبنعملش حاجة.. مبنعملش حاجة.
ربيع: انتو إخوان انت وهو؟
آدم: احنا صحافة يا جدعان.
فيشو: (وهو يحاول الاعتداء عليهم) صحافة يعني إخوان.
آدم: انتو ايه بس ايلي خلاكم ترموا علينا طوب من برا؟ أنا مش فاهم.
صلاح: لأنكم كذابين خونة.
زين: يا حج خونة ايه بس؟
رضوان: ومال قبضوا عليكم ليه يعني؟
زين: انت كمان مقبوض عليك معانا.
صلاح: ومال الذقن ده ايه؟
آدم: ماهو الاثنين دول كمان بذقن يا حج. يعني هما كمان برضو اخوان؟
عراك داخل سيارة الترحيلات. يصرخ الضابط من الخارج.
الضابط: بس انت هو لأطلع لكم. متقربوش من الأمريكاني.
الإخوان هي كلمة السر والشماعة التي علقت عليها السلطة، وصدقها العامة لفترة طويلة، كل الكوارث التي حلت بمصر. فللإخوان خلايا إرهابية تثير الرعب والدمار بالبلاد، ولهم في الآن ذاته خلايا لزعزعة اقتصاد البلاد وأخرى لتشويه سمعة البلد واغتيال المسؤولين واختراق المناهج التعليمية والإضرار بمصالح الناس.
ولأن رياح التغيير هبت على المنطقة وتحتاج مشجبا تلصق به تهمة الإرهاب بما لها من رنة في آذان الغرب، فقد صار للنظام الانقلابي كفلاء ولو نعتوه في الأخير باعتباره متسولا يقف بأبواب ملوك الخليج وأمرائهم. فالمصلحة تقتضي الترفع عن التنابز بالألقاب خصوصا وأن أدوات "التنابز" تلك صارت مؤممة للكفيلين السعودي والإماراتي تسبح بحمده وتوقع العقود للاشتغال بقنواته والتطبيل على "كبير".
أما أمريكا فهي الكفيل الأكبر المعجب بجزمة السيسي، وفي الآن ذاته شيطانا أكبر تلصق تهمة العمل لصالحها بالمعارضين أو ما تبقى منهم حيا داخل السجون وخارجها. في واقع الأمر، للأمريكي حظوة بحماية السلطات وعلى الشاشات استخدام لل"غضب" الشعبي للتأليب على عليه وعلى "أزلامها" بالداخل من "بتوع حقوق الإنسان".
لتهدئة الجلبة داخل سيارة الترحيلات، يأمر العقيد فهمي جنوده باستخدام خرطوم المياه. يهدأ المعتقلون فيدخل عليهم..
العقيد فهمي: ايه؟ عاوزين تموتوا نفسكم وتدبسوها فينا زي ما بتعملوا
معتقل: يا باشا احنا مش اخوان.
العقيد فهمي: آه طبعا.. أمي أنا ايلي اخوان.
آدم: لو سمحت.. عندنا أطفال في العربية ولو ماخرجوش دلوقتي حتحصل مصيبة.
معتقل: بنتي عندها 14 سنة
العقيد فهمي: كل سنة وهي طيبة يا حبيبي. (ثم يوجه كلامه لآدم الصحفي) انت بقا بتطنطط علشان أمريكاني
مساعد الضابط: ما انتم ايلي مولعين الدنيا.
آدم: أنا مصري.
العقيد فهمي: والله.. مش تقول من الصبح يا راجل أنك مصري. (ثم يربطه بالأصفاد مع إحدى نوافذ السيارة ويوجه كلامه لمساعده) متقفلش باب العربية.. خلي بالك لو عوروا بعض حيقولو لك الداخلية بتعذبنا ونتحاكم ولو حد فيهم كررها تاني اضرب في المليان على طول..
المساعد: تمام يا افندم.
الضرب في المليان لا يحتاج إلى تجديد الأوامر بل هو "سنة" سارت عليها الأجهزة الأمنية تصفية لمعتقلين يختفون قسريا قبل أن تظهر جثثهم ممددة على الأرض السيناوية أو في شقق القاهرة وبقية المدن ضحايا لمعركة البطولة والمجد في مواجهة الإرهاب وخلاياه. أما أحكام الإعدام فصارت تنفذ في المتهمين قبل إنهاء إجراءات التقاضي إعمالا لطلب القضاء الناجز كما أرادها عبد الفتاح السيسي وأبواقه.
الاعتقاد السائد أن الدولة تسعى لانحسار العمليات المسلحة لكنها في الواقع تعمل ما أمكنها لتفريخ العنف المسلح سبيلا وحيدا لمواجهة الظلم باعتباره وقود ماكينتها لإلهاء الشعب وعنوان استمراره في تلقي الدعم الغربي كضامن للاستقرار ومحارب شريك للإرهاب "الإسلامي". فمن داخل سيارة الترحيلات، يتحدث بدر، وهو إخواني مخضرم خبر السجون والمعتقلات، إلى حذيفة الإخواني الشاب قائلا: الإخوان مرحلة.. انت النهارده خلاص بقيت جاهز تعديها.. إن شاء الله لما أخرج من هنا أنا رايح على سوريا.. لو ناوي تعالى معايا.
سوريا وولاية سيناء تحولتا لحواضن شباب صدموا في "سلمية" تنظيماتهم السياسية في مواجهة القوة الغاشمة والبطش السلطويين. أما البقية فاغتراب أو ضيوف على سجون امتلأت بمعتقلين لخص لهم القادة الشرعية في عودة الرئيس المنقلب عليه ليصبحوا حطبا لمعركة كسر عظم اختلط فيها الحق بالأوهام.
داخل سيارة الترحيلات، يختلي الشاب السيناوي الإخواني أحمد بزميله عمر.
أحمد: استاذ عمر، هو الرئيس بجد ممكن يرجع؟
عمر: مية في المية راجع.
أحمد: بس الدنيا كده ضدنا. حنكسبوا ازاي؟
عمر: احنا مبنؤمنش بالأسباب، احنا بنؤمن برب الأسباب. استهدي بالله كده واخزي الشيطان.. اثبت.
وفي مشهد موالي يختلي عمر بزميل إخواني أكبر منه مرتبة.
عمر: الباش مهندس معز، هو حضرتك ليه سبتهم يقولوا قصاص ورصاص وكل الكلام ده؟
معز: لو ما احتويناهمش مش حيبقى فيه جماعة. وبعدين متقلقش.. ان شاء الله لما نرجع للحكم كل حاجة ترجع لطبيعتها.
عمر: بس احنا فعلا ممكن نرجع؟ ده بالورقة والقلم مستحيل. حضرتك شايف الدنيا كلها مقلوبة علينا برا ازاي.
معز: يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين... ايه؟
عمر: ويفعل الله ما يشاء.
معز: صدق الله العظيم.
الكارثة أن أطفال مصر لم يستثنوا من المحرقة الفكرية ومن الصراع الأيديولوجي والاستقطاب السياسي.
في داخل سيارة الترحيلات من فيلم (اشتباك)، الطفل فارس في حديث مع المراهقة المحجبة عائشة.
فارس: انت هندك كام سنة؟
عائشة: أكبر منك.
فارس: عندنا في المدرسة كنا بنلعب عسكر وإخوان.
عائشة: احنا كمان.
فارس: بس عندنا كنا بنمسك الإخوان ونعدمهم.
عائشة: احنا عندنا ايلي بيتمسك من العسكر بيتذبح.
قبل أيام أصدر قائد الانقلاب بمصر قانونا جديدا يوفر الحصانة القضائية لقادة الانقلاب العسكري وقادة الجيش، بمنع التحقيق معهم أو اتخاذ أي إجراء قضائي بحقهم جراء تورطهم في الجرائم التي ارتكبت بحق المعتصمين الرافضين للانقلاب أو أي جرائم أخرى في المجتمع خلال فترة توقيف العمل بالدستور.
ما حصل كان مجرد اشتباك، ويبدو أن القضية في الأخير قُيدت ضد مجهول.
أضف تعليقك