بقلم: وائل قنديل
ملحمة عملية إنقاذ 12 طفلاً، ابتلعهم كهف عميق في تايلاند، والتي بدأت أمس، ونجحت في إنقاذ ستة من الضحايا، واحدة من قصص الإنسانية العظيمة.
هرع فريق إنقاذ من خمسين أجنبياً وأربعين تايلاندياً، يتقدمهم 18 غواصاً، خمسة منهم فقط تايلانديون، فيما جاء الآخرون من شتى بقاع العالم للإنقاذ، والمشاركة في إعادة الاعتبار لقيمة أن تكون مع الإنسان، بما هو إنسان، من دون النظر إلى اعتبارات القرابة الجغرافية والثقافية والأيديولوجية.
أربعة كيلومترات قطعها الغواصون في جوف الكهف لانتشال الأطفال، في صراعٍ مع قسوة الطبيعة، في مغامرة مثيرة قرروا خوضها، من دون تفكير في العواقب، ليذكّروا العالم بآخر أكبر ملاحم الإنقاذ البشري في جمهورية تشيلي قبل ثماني سنوات، حين قدّم الشعب هناك، وشعوب الدول المجاورة، للعالم كله درسا فى الإنسانية والوطنية والسياسة والعلم والتخطيط، وقبل ذلك فى احترام المواطن.
في ذلك اليوم من أكتوبر/ تشرين أول 2010، قطع رئيس تشيلي، سباستيان بينيرا، على نفسه عهدا بإنقاذ 33 من عمال المناجم الذين ابتلعتهم الأرض على عمق سبعمائة متر، فيما اجتمع علماء تشيلى على قلب رجل واحد، للتوصل إلى طريقة علمية لانتشال العمال أحياء. وشارك الأخصائيون النفسيون وخبراء الاجتماع بخطة للإبقاء على روح المواطنة داخل المنكوبين، والاحتفاظ بثقتهم فى أنهم سيعودون إلى الحياة. حتى رئيس دولة بوليفيا قرّر الذهاب معهم، لمجرد أن أحد العمال المحبوسين فى غياهب المنجم ينحدر من أصول بوليفية.
تشيلى وبوليفيا مصنفتان ضمن دول العالم الثالث، لكنهما قدّما درسا للعالمين، الأول والثاني، فى احترام حياة المواطن والإبداع في الدفاع عنها، لكن هذا، كما كتبت في ذلك الوقت، ليس مدهشا وغريبا من وطنٍ أنجب الشاعر العظيم الحاصل على "نوبل"، بابلو نيرودا، صاحب العمل الفاتن "أشهد أنني قد عشت".
وكان فى تفاصيل عملية الإنقاذ أشياء بديعة، منها مثلا أن علماء النفس ابتدعوا من الأساليب والوسائل ما يحافظ على الحالة النفسية للعمال المنكوبين، عن طريق إشغالهم بأنشطةٍ تنقذهم من البقاء محاصرين تحت فكرة الموت الذي ينتظرونه، نجحوا فى إدخال الصحف والمجلات والكتب إلى عمق المنجم، كي يقرأ المحاصرون، ويتابعوا ما يجري فى الخارج، ويفكروا في قيمة الحياة.
كما توصل العلماء وخبراء الجيولوجيا إلى فكرة كبسولة الإنقاذ التي اخترقت باطن الأرض، على عمق مئات الأمتار، لكي تنقذ العمال فردا فردا. ومع خروج كل عامل حيا كانت أزهار المواطنة تنبت داخل كل مواطن شيلي، وداخل كل إنسان محبٍّ للخير والحياة على وجه الأرض.
وعلى مدار 40 ساعة، حبس العالم أنفاسه، وابتهل إلى الخالق أن تنجح العملية.. سمعت عبر الإذاعة البريطانية مواطنين عربا من السودان والعراق يقولون إن أعينهم دمعت مع الإعلان عن عودة عامل جديد من المنجم إلى الحياة، ورأيت مصريين يتسمّرون أمام الشاشات فى انتظار نجاح العملية، والدمع يترقرق في الأعين. وكان السؤال وقتها: هل كان هؤلاء يبكون فرحا بالانتصار على الموت فى تشيلى، أم حزنا على أوضاع المواطن العربي في وطنه العربي السعيد؟
كان ذلك قبل انطلاق الربيع العربي بشهرين، وهو الربيع الذي تألقت معه إنسانية المواطن العربي، ورسم لوحاتٍ فائقة الجمال للحس الإنساني والوطني، ولمسنا تجليات ذلك في مسيرة ثورات الكرامة الإنسانية، قبل أن يأتي طوفان الثورات المضادّة، ليقتلع أشجار الإنسانية، ويثبت خوابير التصنيفات الأيديولوجية والطبقية، في عمليات قتلٍ منهجية للفطرة الإنسانية، أوجدت كائناً يرقص ويغني على إيقاعات المذابح الجماعية، ليسجل شهرا يوليو وأغسطس في مصر، على سبيل المثال، أطول سلسلةٍ من المجازر ضد الإنسانية، امتدت من دار الحرس الجمهوري، حتى ميداني رابعة العدوية ونهضة مصر، ثم مسجد الفتح في ميدان رمسيس، وأخذت في طريقها شهداء سيارة ترحيلات سجن أبو زعبل التي شهدت عملية طهو لجثث 37 مواطناً وهم أحياء، ليغني المطربون، ويصيح المثقفون الفاشيون: هل من مزيد.
لا بأس وأنت تتابع عمليات انتشال الإنسانية في الكهف التايلاندي أن تتذكّر ما جرى مع الإيطالي، جوليو ريجيني، حين جاء إلى القاهرة لمساعدة المطحونين والمهمشين من خلال دراسة علمية.
ولا بأس أيضاً أن تنعش ذاكرتك بأن عشرات الآلاف من المصريين يقبعون في كهوف السجون وأقبية التعذيب، منهم من لم يستطع العالم كله دفع الحكومة المصرية إلى التوقف عن تصفيتهم بحرمانهم من حبة دواء، أو سرير طبي، كما في حالة صحافي قضى عمره كله يدافع عن حرية الإنسان وكرامته، مثل الزميل هشام جعفر.
أضف تعليقك