بقلم الأستاذ: مصطفى مشهور
لا شك أن الوضع المتردي الذي تعيشه الأمة الإسلامية الآن يرجع بالأساس إلى الغياب الواضح للمشروع الحضاري الإسلامي، كإطار يحكم حركة الحياة في أمتنا، والمثل الصارخ لهذا الغياب ما يحدث الآن في فلسطين من إبادة مخططة ومنظمة ومجرمة لشعبنا هناك بالقتل والتشريد والتدمير لكل مظاهر الحياة، بينما الأمة لا تحرك ساكناً، وكأنه يحدث في كوكب آخر، أو عالم غير عالمنا.
ومن هنا كان لابد من التذكير فذكر إن نفعت الذكرى" (الأعلى8) بمشروعنا الحضاري لنهضة الأمة، حتى تهب شعوبنا للمطالبة بالأخذ به، والمناداة بتطبيقه ليحكم حركة حياتها تكويناً وتربية للفرد المسلم والأسرة المسلمة والمجتمع المسلم والحكومة الإسلامية، وإعادة الكيان الدولي للأمة الإسلامية، ثم أستاذية العالم بنشر دعوة الإسلام في ربوعه حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.
وعليه، يأتي الإسلام ديناً ونظام حياة وحضارة لإخراج البشرية مرة أخرى، كما أخرجها من قبل من ظلمات تعيشها، ومن تخبط حياة "ضنك" تحياها، مليئة بكل شرور الضلال، وضروب الفساد، وصنوف الظلم، وألوان الشقاء، فيقدم بقواعده العامة المتكاملة العقيدية والأخلاقية والتعبدية والتعاملية تطهيراً حقيقياً للحياة البشرية، بالعمل الدائب على استئصال الشرور، وبالتصحيح الدائم للانحرافات من خلال "تربية" و "ضوابط" و"منظمات" ذاتية حاكمة لحركة هذه الحياة، ويتم ذلك على أساس "تحرير" فعلي للإنسان من أى شيء ومن أى مخلوق، بتحديد واضح، ودقيق لمركزه وغايته في هذه الحياة، وفي ظل "كرامة" ينعم بها، تليق به كإنسان كما أراد له خالقه سبحانه وتعالى.
وفي ذلك يقول الحق تبارك وتعالى" فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون " (الروم30) ويقول سبحانه "وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله" (الأنعام153) ويقول جل من قال "فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى 123 ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا" (طه123)، وفي ذلك أيضاً يقول رسولنا ص (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدى أبدا، كتاب الله وسنتي)، ولقد فهم صحابة رسول الله ص هذه الرسالة الخاتمة فهماً صحيحاً ودقيقاً، فنجد الصحابي ربعي بن عامر رضى الله عنه يقول (إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العبيد إلى عبادة الله وحده، ومن جور الكهان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة).
مشروع غير مقيد
ونحن لا ندعو إلى مشروع حضاري مقيد ببلد أو شخص أو مذهب أو عصر، نحن ندعو، ونذكر، بمشروع حضاري قائم على القرآن الكريم والسنة المطهرة، موصول بالواقع، متصل بالزمان والمكان والإنسان، مشروح بلغة العصر، منفتح للتجديد ومفتوح للاجتهاد من أهله في محله، مستلهم للماضي، ومعايش للحاضر ومستشرف للمستقبل، جامع بين الأصالة والمعاصرة، محافظ في الأهداف، متطور فى الوسائل، ثابت في الكليات، مرن في الجزئيات، مشدد في الأصول ميسر في الفروع، رابط بين النصوص الجزئية والمقاصد الكلية، منتفع بكل قديم صالح ومرحب بكل جديد نافع، موفق بين النقل الصحيح والعقل الصريح، ملتمس للحكمة من أي وعاء خرجت ومستفيد من العلوم من أي جهة جاءت في غير تعصب لرأى قديم، ولا عبودية لفكر جديد، على أساس راسخ من الكتاب والسنة.
غاية المشروع
وتتمثل الغاية الأساسية لهذا المشروع بمفاهيمه ومدركاته، وثوابته ومتغيراته، وتوازناته ومحركاته، وحريته وقيوده، وضوابطه وأحكامه، وقيميته وماديته، وتراثيته وتقدميته، وكفاءته وعدالته، وديمومية صلاحياته وإنجازاته مكانياً وزمانياً في عبادة الخالق تبارك وتعالى بالمعنى الواسع، الذى يشمل فرض بناء الإنسان وإعمار الأرض تحقيقاً للحياة الطيبة الكريمة، أي توفير "تمام الكفاية" لكل فرد يعيش في كنفه. ولتحقيق هذه الغاية، جمع المشروع في تناغم طبيعي وتوازن واقعي بين المادة والروح، وبين الشرائع والشعائر، وبين الفرد والجماعة، وبين الآخرة والأولى، وحقق التناسق الفاعل بين هذه العناصر، مؤكداً على تكاملها لا تنافرها، في عدالة واعتدال، ومحدداً أدوار العمل الصالح وواضعاً الضوابط الحاكمة للأداء، لمنع الممارسات الخاطئة خلقاً، والمعوقة فعلاً لمسيرة الاستخدام الأشمل والأكفأ للموارد، والمعطلة عملاً لمسيرة تقدم المجتمع، وإذا ما حدثت انحرافات، ويمكن واقعياً أن تحدث، فإنها بالقطع وقتية، يصححها المشروع آنياً وذاتياً من خلال رقابة ذاتية متيقظة على الأداء على كافة المستويات.
وبعيداً عن المبالغة، وبحرفية شديدة وموضوعية أشد، يمكن القول إن دراسة متأنية لبعض رسائل الإمام الشهيد حسن البنا، وبالذات رسائل: بين الأمس واليوم، والمؤتمر الخامس، والمؤتمر السادس، ونحو النور، تقدم عرضاً واضحاً ومتكاملاً لما رآه الإمام لمشروع إسلامي للنهضة، ورسائل: دعوتنا، وإلى أي شيء ندعو الناس، والإخوان تحت راية القرآن، والتعاليم، تقدم الهيكل الأساسي لهذا المشروع، كما تقدم رسائل: هل نحن قوم عمليون؟ ومشكلاتنا في ضوء النظام الإسلامي، النموذج العملي لهذا المشروع.
ولقد اتسم فكر الإمام حول مشروع النهضة بسلاسة العرض وسهولة الأسلوب، وتقديم الدليل الشرعي، والتركيز على تربية الرجال، وإيثار الناحية العملية، والتدرج في الخطوات، والبعد عن مواطن الخلاف، والإيمان العميق بشمول المشروع لكل مناحي الإصلاح سياسياً، واجتماعياً، واقتصادياً، وثقافياً إلى نهاية الزمان، وصلاحه لكل زمان ومكان فهو فكرة وعقيدة، ونظام ومنهاج، لا يحدده موضع، ولا يقيده جنس، ولا يقف دونه حاجز جغرافي، ولا ينتهي بأمر حتى يرث الله الأرض ومن عليها، ذلك لأنه نظام رب العالمين، ومنهاج رسوله الأمين ص.
ووفقاً لهذه النظرة الثاقبة من المرجعية الإسلامية يتكون مشروعنا الحضاري من مرتكزات لنهضة إسلامية، ومن عناصر رئيسة لهذا المشروع، ثم من دولة نموذج وفقاً له، بتفصيل وتحديد ليس هذا مكانهما، وهذا التفصيل والتحديد مبسوطان في أدبيات الإخوان المستمدة من الكتاب والسنة، ثم من رسائل الإمام الشهيد كما أسلفنا وكتابات المرشدين الذين تولوا الأمانة من بعده، ولقد أكدت هذه الأدبيات على أن العالم كله في حاجة إلى هذا المشروع، وكل ما فيه يمهد له ويهيئ سبيله، ويؤكد هيمنة نظام القرآن بالأدلة النقلية والعقلية والتاريخية، وقبل ذلك كله وبعده شهادة الحق تبارك وتعالى في قوله سبحانه ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى" للمسلمين (النحل89).
التفاصيل واضحة ومحددة
وبعد هذا الإجمال نود أن نؤكد أن لدينا تفاصيل مشروعنا واضحة ومحددة تحديداً دقيقاً ومتدرجاً وعملياً في تراث الجماعة وأدبياتها كما أسلفنا ومن هذه التفاصيل المواقف المحددة للجماعة من القضايا المهمة والكبيرة، مثل موقف الجماعة من استخدام القوة، وموقفها من الحكم، ومن الدستور، ومن القانون، ومن الأحزاب السياسية والتعددية الحزبية، ومن الهيئات الإسلامية، ومن الخلافات الدينية، ومن الغربيين والحضارة الغربية، وموقفها من الوحدات الثلاث:
الوحدة الوطنية، والوحدة العربية، والوحدة الإسلامية، وموقفها من الخلافة، وأخيراً موقفها من النزعة العالمية الإنسانية.
والمكتبة الإسلامية الآن حافلة بأعمال كبيرة وتفصيلات دقيقة وعملية حول مرتكزات وعناصر المشروع الإسلامي، فلدينا تفصيل حول دور المرأة، والإصلاح السياسي والإصلاح الحكومي بعامة والإدارة العامة بخاصة، والإصلاح الاقتصادي والتنمية المستدامة، والإصلاح الاجتماعي وقضية التهميش والفقر، والإصلاح الثقافي ووسائل ترسيخ الانتماء والهوية، إلى آخر المكونات الأساسية لمشروع حضاري تشغيلي فاعل.
وأخيراً بالنسبة للوحدات الثلاث:
الوطنية، والعربية، والإسلامية، فإن موقفنا شديد الوضوح، فبالنسبة للوطنية والقومية، فإن الإنسان لا يستطيع أن ينفك عن الوطن الذي ولد فيه أو عن القوم الذين ينتمى إليهم، فرسولنا ص، رغم عالمية دعوته، كلف في أول عهد الرسالة بأن ينذر قومه وعشيرته الأقربين، "وّأّنذٌرً عّشٌيرّتّكّ الأّقًرّبٌينّ" (الشعراء27) كما قال تعالى "وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون" (الزخرف44).
ولقد ظل ص يدعو عشيرته وقومه ثلاثة عشر عاماً، ولم يتركهم ويهاجر إلا بعد إخراجهم له ص، فهاجر إلى المدينة، وقومها ليسوا ببعيدين عن قومه، وأهلها من بطون وقبائل العرب.
وفي الوطنية والقومية يقول الإمام الشهيد في رسالة المؤتمر الخامس: "إن الإسلام فرضها فريضة لازمة لا مناص منها، أن يعمل كل إنسان لخير بلده، وأن يتفانى في خدمته، وأن يقدم أكبر ما يستطيع من الخير للأمة التي يعيش فيها، وأن يقدم في ذلك الأقرب فالأقرب رحماً وجواراً، حتى إنه لم يجز أن تنقل الزكوات أبعد من مسافة القصر، إلا لضرورة".
ومن هنا كان المسلم أعمق الناس وطنية، وأعظمهم نفعا لمواطنيه، وكان الإخوان المسلمون أشد الناس حرصاً على خير وطنهم، وتفانياً في خدمة قومهم.
فالإخوان المسلمون يحبون وطنهم، ويحرصون على وحدته القومية.
وبالنسبة للوحدة العربية، يقول الإمام يرحمه الله: "هذا الإسلام نشأ عربياً، ووصل إلى الأمم عن طريق العرب، وجاء كتابه الكريم بلسان عربي مبين، وتوحدت الأمم باسمه على هذا اللسان". وقد جاء في الأثر "إذا ذل العرب ذل الإسلام". "
و الإخوان المسلمون يعتبرون العروبة كما عرفها النبي ص فيما يرويه ابن كثير عن معاذ بن جبل رضى الله عنه "ألا إن العربية اللسان".
ومن هنا كانت وحدة العرب أمراًَ لا بد منه لإعادة مجد الإسلام وإقامة دولته وإعزاز سلطانه، ومن هنا وجب على كل مسلم أن يعمل لإحياء الوحدة العربية وتأييدها ومناصرتها.
وبالنسبة للوحدة الإسلامية، يستدرك رضوان الله عليه، فيقول:
"بقى علينا أن نحدد موقفنا من الوحدة الإسلامية، والحق أن الإسلام كما هو عقيدة وعبادة، هو وطن وجنسية، وأنه قضى على الفوارق النسبية بين الناس، فالله تبارك وتعالى يقول:
إنما المؤمنون إخوة (الحجرات10). والنبي ص يقول " المسلم أخو المسلم، والمسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم".
ثم يستطرد يرحمه الله قائلا: فالإسلام والحال هذه لا يعترف بالحدود الجغرافية، ولا يعترف بالفوارق الجنسية الدموية، ويعتبر المسلمين جميعاً أمة واحدة، ويعتبر الوطن الإسلامي وطناً واحداً مهما تباعدت أقطاره".
ثم يضيف يرحمه الله: "وضح إذن أن الإخوان المسلمين يحترمون قوميتهم الخاصة باعتبارها الأساس الأول للنهوض المنشود، ولا يرون بأساً بأن يعمل كل إنسان لوطنه، ثم هم بعد ذلك يؤيدون الوحدة العربية باعتبارها الحلقة الثانية في النهوض، ثم هم يعملون للجامعة الإسلامية باعتبارها السياج الكامل للوطن الإسلامي.
وتأكيداً لذلك، فقد كان من أفضل صحابة رسول الله ص بلال الحبشي، وسلمان الفارسي، وصهيب الرومي، وهم بالقطع أفضل عند الله سبحانه ورسوله ص وكافة المسلمين من أبي جهل، وأبي لهب، فالمعيار من حيث المنزلة عند الله ليس الحسب أو النسب، ولكن "التقوى" إن أكرمكم عند الله أتقاكم (الحجرات13).
وفي ذلك يقول رسولنا ص "كلكم لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على عجمي، ولا أبيض على أسود إلا بالتقوى".
وإذ الأمر على هذا الوضع الحاسم، فإن الإسلام الحنيف يكون قد جرد الوطنية والقومية من كل عصبيات الجاهلية، وجعل الدعوة الوطنية والدعوة القومية مرتكزة على عدالة الإسلام، بحيث لا يتداخل في أيهما جور أو ظلم أو تفاخر بالأنساب أو الأحساب أو الجنسيات، ويختم الإمام الشهيد موضوع الوحدة بقوله في رسالة: إلى الشباب "..
وحسبك من وطنية الإخوان المسلمين أنهم يعتقدون عقيدة جازمة لازمة أن التفريط في أى شبر من أرض يقطنه مسلم جريمة لا تغتفر حتى يعيدوه أو يهلكوا دون إعادته، ولا نجاة لهم من الله إلا بهذا".
وعليه، فإن الوطنية والقومية العربية دعوتان تتسقان مع المشروع الإسلامي الذي تتبناه الجماعة إذا كانتا تنطلقان من الإسلام كدين ونظام حياة وتتأسسان على العقيدة والشريعة الإسلامية. بهذا الوضوح والتحديد والحسم يعالج مشروعنا قضية الوحدة بمستوياتها المختلفة، كما عالج كافة القضايا.
فمشروعنا هو بحق مشروع العزة والمنعة، والحق والقوة، والبركة والاستقامة، والثبات والإخلاص، والفضيلة والنبل. فلنطبقه لنهضة أمتنا، حتى يحقق الله وعده لنا، مصداقاً لقوله تعالى:
وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى" لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا (النور55)صدق الله العظيم.
أضف تعليقك