بقلم: المستشار محمد المأمون الهضيبي
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه، وبعد...
فقد قضى الله تعالى لهذه الأمة المسلمة أن تكون في رباط إلى يوم القيامة؛ قيامًا بمهمة البلاغ عن الله والشهادة على العالمين، تلك المهمة التي أكرمها الله بها وجعل خيريتها رهنًا بأدائها
﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ (آل عمران:110).
وفي عصرنا هذا تداعت الأمم علينا كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، منتهزين فرصة الضعف التاريخي الذي تمر به أمتنا، وقد أرهقها طغيان الساسة، واستبداد الحاكمين، ونهب الثروات، وتقطيع الأواصر، وتحلل الأخلاق، وتخاذل الضمائر، والغزو الثقافي المتفنن في أدواته، والمصرّ على بلوغ غاياته.
غير أنّ قدر الله الرحيم بهذه الأمة قضى ألا تزال طائفة منها ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم، ولا من ناوأهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك.. وقد رأينا أمثلة وضيئة لهم في أرضنا المحتلة في فلسطين، يدافعون- ليس فقط عن حريتهم ودينهم- بل أيضًا عن كرامة الأمة ومستقبلها..
ورأينا مقاومة ومصابرة من أهلينا الذين أجهدهم الحصار سنين عددًا في أفغانستان والعراق، حتى بدت القوة الأمريكية في استكبارها وصلفها عاجزة عن فرض إرادتها، بل بدت دلائل تراجعها، وهي دلائل تتعمق كل يوم بفضل الله، لتلحق عما قريب بأخوات لها من دول الاستعمار القديم كانت هزيمتهم على يد الشعوب المستضعفة بداية لتراجعهم عن مكان الصدارة في العالم.
واليوم نرصد ظاهرة أخرى لا تقل أهمية عن الصمود أمام الاستعمار العسكري الأمريكي والصهيوني، إنها ظاهرة المقاومة الثقافية والفكرية لمحاولات فرض النموذج الغربي على المسلمين، وترويض العقل الإسلامي ليتقبل فكرة الاحتلال، ويسلم بتفوق أهله، وقد رأينا عما قريب أمثلها لها في مقاومة علماء المسلمين في دول الخليج لما يسمونه بمشروع تطوير مناهج التربية والتعليم، الذي أقرت بعض ملامحه للأسف الشديد القمة الخليجية التي انعقدت في ذلك الشهر؛ ذي القعدة سنة 1424هـ.
وفكرة تطوير مناهج التربية والتعليم في بلادنا الإسلامية فكرة أمريكية روجت لها الإدارة الأمريكية والصهيونية، وحاولت فرضها منذ مدة بعيدة، غير أنها أصبحت بالنسبة لهم أكثر إلحاحًا بعدما اصطدموا ب المقاومة الإسلامية الصلبة لمشاريعهم في الهيمنة والاستعمار.
وحسنًا فعلت تلك الجماعة من العلماء الأجلاء حين فضحت هذه المخططات، وكشفت عن حقيقة أهدافها، وأنها لم تقصد إلا تفريغ مناهج التربية والتعليم عندنا من كل ما يعمق هوية الأمة الإسلامية، ويؤكد تميزها وأصالتها، ويثير فيها روح الجهاد و المقاومة، لتصبح بعد ذلك صيدًا سهلاً لأعدائها، وغنيمة باردة لا تستعصي عليهم.
إنّ معارضتنا لذلك المشروع لا يعني بحالٍ رضانا المطلق عن مناهجنا التربوية والتعليمية، فإننا نراها قاصرة عن تحقيق الغاية التي نصبو إليها في تكوين أمة العقيدة والريادة والشهادة على العالمين.. غير أنّ ذلك لا يعني أيضًا أن نزيد الأمر سوءً بقبول إملاءات العدو، وتخريب بيوتنا بأيدينا، وهدم قلاع المقاومة داخلنا، والتآمر على بقية الخير فينا.
أيها الإخوة والأخوات:
لقد كنا نأمل في هذه الفترة العصيبة من تاريخنا أن يجتمع أولو الأمر فينا، والمسئولون عن تربية وتعليم أمتنا ليتدارسوا معًا كيف يلبون نداء شعوبهم وأشواقهم نحو منظومة تربوية وتعليمية تزيل من نفوسنا الجهالة بديننا وتراثنا، وتدفع بنا إلى آفاق تستحقها أمتنا المجاهدة من الرفعة في ميادين البحث العلمي والنهضة التقنية، وتعيد أمتنا إلى مكانتها اللائقة بها مكانة الصدارة بين الأمم، بعدما أصبح تخلفنا مزريًا في ذلك المجال، ومهددًا لنا بالتجمد والاضمحلال.
إنّ ما ينفقه الكيان الصهيوني على البحث العلمي يبلغ 2.4% من الناتج القومي الإجمالي لهم، في حين لا تتجاوز نسبة الإنفاق 0.6% في أكثر البلدان العربية إنفاقًا على البحث العلمي، وهي الإمارات العربية المتحدة، ناهيك عن غيرها من الدول، وبشكل عام فإن متوسط الإنفاق على البحث العلمي لدى الكيان الصهيوني يزيد عشرة أمثال ما عند العرب مجتمعين، وإذا أخذنا في الاعتبار التباين في عدد السكان وحجم الناتج السنوي لاتسعت الفجوة إلى أكثر من ثلاثين مرة، ولسوف تزداد تلك الفجوة اتساعًا إذا أضفنا الإنفاق على الأبحاث العسكرية في كلا الجانبين!!
وقد سجل العلماء العرب 24 براءة اختراع سنة 1997م، في حين سجل العلماء الصهاينة 577 براءة اختراع في العام نفسه، ويصدر الكيان الصهيوني تكنولوجيا بمليار دولار سنويًا، بينما سجلت الهند صادرات في مجال تقنية المعلومات بمبلغ 150مليون دولار سنة 1990م، وارتفع سنة 1999م إلى أربعة مليارات ويتوقع أن يرتفع إلى 50 مليار دولار سنة 2008م.
ولمَّا صنف تقرير التنمية البشرية الصادر عن الأمم المتحدة الدول- حسب الإنجاز التقني- إلى خمس فئات: (القادة ، القادة المحتملون ، النشطون ، المهمشون ، الآخرون) جاء الكيان الصهيوني ضمن الفئة الأولى من الدول القادة، وهي 18 دولة، وليس من بينها دولة عربية أو إسلامية واحدة!!
ومن المؤسف أن خمس سكان عالمنا العربي (20% منه) يعانون البطالة، بحسب تقارير منظمة العمل العربي، وأن 70 مليون عربي أميون، لا يعرفون القراءة أو الكتابة، بينهم 45 مليون امرأة وصبي، ويبلغون نحو 43% من الأمة العربية بحسب إحصاء سنة 1998م، ولا تزيد نسبة الأمية لدى الصهاينة عن 5%، أما عن مستوى التعليم الذي يتلقاه طلاب المدارس والجامعات عندنا فقد علم الكافة مدى تدنيه وانحداره، وأنه يخرّج في حالات كثيرة جماعات من أنصاف المتعلمين، الذين لا يجيدون التعامل مع آليات العصر الحديث ومناهج البحث العلمي فيه.
أين نحن من ذلك الواقع:
ولنا أن نتساءل أين نحن من ذلك الواقع المخزي الذي سبق بيان بعض جوانبه؟ وأين المؤتمرون الذين جلسوا يتباحثون حول تطوير مناهج التربية والتعليم منه؟ ولماذا لم يشغلهم البحث عن مخرج منه بدل أن ينشغلوا في المقام الأول بإرضاء السيد الأمريكي، وتطويع مناهجنا لإرضائه وإنجاز سعيه في تركيعنا وإذلالنا؟ وترويض الإنسان المسلم الذي استعصى على القهر بدوام صلته بالله تعالى، وإيمانه بفرضية الجهاد في سبيل الله، وحتمية انتصار الإسلام وإن طال الزمن.. ﴿كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ (المجادلة:21).
وإذا كانت شريعة الجهاد وصور البطولات الإسلامية التي يدرسها طلابنا تؤرق الضمير الأمريكي، ويجد فيها مجافاة لمنطق السلام، وحائلاً دون التعايش المذلِّ مع الصهاينة والأمريكان، وإذا كان ذلك يجد صدى له عند بعض حكامنا أفلا ينظرون إلى مناهج التربية والتعليم لدى الكيان الصهيوني، وكيف يربون أولادهم على العنصرية والتفوق اليهودي وكراهية العرب، ووصفهم في كتبهم الدراسية وقصص أطفالهم بأنهم كلاب قذرة، عدوانيون يعشقون الدماء والإرهاب؟
أفلا ينظرون إلى الصهاينة كيف تتحدث كتبهم الدراسية عن حق الاستيطان والهجرة لليهود إلى فلسطين أرض الميعاد والأجداد، لتكوين إسرائيل الكبرى التي تمتد من النيل إلى الفرات؟
إننا نذكرهم بقانون التعليم اليهودي العام الصادر سنة 1953م، والذي تنص المادة الثانية منه على أن (التعليم في دولة إسرائيل يجب أن يرتكز على قيم الثقافة اليهودية، والولاء لدولة إسرائيل والشعب اليهودي، وتحقيق مبادئ الريادة في العمل الطلائعي الصهيوني).
وتقول المادة الثالثة منه "يجب أن يُخضع الحاضر لتقييم متواصل في ضوء أحلام الشعب اليهودي وذكرياته، ويجب أن ينعكس الماضي اليهودي على النظام التعليمي الذي نحن بصدده، لأن التأهيل التاريخي والذاكرة والاهتمام بالعمل والإيمان بتجدد المجتمع اليهودي المتكامل مقومات لابد منها لبناء فلسفة التعليم اليهودي".
ولم ينزعج أحد لمستوى التعليم الديني عند اليهود الصهاينة، ولم يطالبهم أحد بتغيير مناهجهم أو تعديل مسارهم، أو الحد من نشاطهم، أو الحيلولة دون ازدواج النظام التعليمي العلماني والديني، كما يحدث في بلادنا.
فلدى الكيان الصهيوني تعليم ديني نشط ينضم إليه سنويًا حوالى 5500 ألف طالب جديد، بل إن عدد الطلاب المنتظمين في المدارس الثانوية لحزب (شاس) الصهيوني المتطرف بلغ (111) ألفًا سنة 2000م، واستطاع ذلك الحزب أن يقتطع من الميزانية العامة للدولة خمسين مليون شيكل للإنفاق على التعليم الديني لديه في مقابل موافقته على موازنة الدولة لعام 2000م.. بل إن نحو خُمس تلاميذ المرحلة الابتدائية في الكيان الصهيوني ينتظمون في المدارس الدينية هناك!!، تلك المدارس التي تعمق الكراهية للمسلمين والعرب، وترفض تعليم المواد العلمية التجريبية كالرياضة والكيمياء والطبيعة، وتقدم تعاليم التوراة على قوانين الدولة، وفتاوى الحاخامات على الأوامر العسكرية، وتقوم بإعداد الكوادر الشبابية للمنظمات الإرهابية، وهم الذين قاموا بمحاولات متكررة لهدم المسجد الأقصى، والهجوم على الحرم الإبراهيمى، وقتل "إسحاق رابين" رئيس وزرائهم، وتأييد سياسات "شارون" الدموية.
وبعد كل ذلك نوصم نحن المسلمين بالتطرف، وتوصف مناهجنا التربوية والتعليمية بالحض على الإرهاب؟!! وتُحارب مدارسنا الإسلامية حربًا لا هوادة فيها.
وعلى كل حال فإننا إذا كنا نرسل تحية الإجلال لكل علمائنا الذين ناهضوا تلك الخطوة المسيئة في دول الخليج فإننا مازلنا نأمل أن يعيد المسئولون هناك- وغيرهم ممن يسير سيرهم دون إعلان- التفكير في ذلك القرار، والعودة إلى جادة السبيل.
مرة أخرى الحجاب وشيخ الأزهر:
وكان لعلمائنا في مصر وغيرها من بلدان الإسلام وقفتهم المشهودة في إنكار توجه الحكومة الفرنسية لاتخاذ قرار بمنع الفتيات المسلمات في فرنسا من ارتداء الحجاب في المدارس، ولقد أصدر الإخوان المسلمون بيانًا في ذلك الأمر بمجرد إعلانه، وبينوا فيه مخالفه ذلك القرار لمواثيق حقوق الإنسان وجهود الأمم المتحدة التي تنص على ضمان الحريات الدينية للأفراد، كما يخالف مصالح الدولة الفرنسية نفسها لدى العالم الإسلامي، وصورتها التي تسعى للترويج لها كحامية للحرية والمساواة، أما مخالفته لصريح الإسلام قرآنًا وسنة فهو معلوم من الدين بالضرورة، وهو فرض ديني لا يجوز لمسلمة التفريط فيه بحال، وليس رمزًا للتباهي والتميز أو الاستفزاز.
ولقد ساءنا- كما ساء علماء الإسلام في شتى الأرجاء- تصريح شيخ الأزهر في لقائه بوزير الداخلية الفرنسي الذي قال فيه:
"إذا كانت المرأة المسلمة تعيش في دولة غير مسلمة وأراد المسئولون فيها أن يقرروا قوانين تتعارض مع مسألة الحجاب فهذا حقهم، هذا حقهم، هذا حقهم"
والحق أن ذلك القول من شيخ الأزهر قد أثار غضب قطاعات عريضة من المسلمين الذين رأوا فيه تهاونًا وإعطاءً للدنية، ورضًا بأن تكون المرأة المسلمة في وطنها الذي تقيم فيها مستضعفة مضطرة إلى غشيان الحرام والعمل به.
ونحن ننضم إلى الغيورين على الأزهر من مشايخه وعلمائه الذين تصدوا للرد على شيخ الأزهر وتفنيد فتواه، وننبه إلى خطورة ذلك المنحى منه، إذ إنّ مشيخة الأزهر ظلت طوال تاريخها موضع إجلال المسلمين في كافة أنحاء الأرض، والدفاع عنهم، ويجب أن تحافظ على ذلك الرصيد التاريخي والواقعي العظيم.. فشيخ الأزهر رمز كبير من رموز الإسلام، يقود مؤسسة هي الأعظم بين المؤسسات الدينية الإسلامية، التي تدافع عن المسلمين في شتى بقاع الأرض وتناصر المسلمين المستضعفين، وتؤكد على شرائع الإسلام وشعائره.
إننا نشفق أن ينعكس تردي الأوضاع عندنا والانهزام النفسي الناتج عن ذلك على فتاوانا الدينية، ونتطلع في ذات الوقت إلى أن تكون مؤسساتنا الدينية الرسمية نموذجًا للشورى من العلماء، تلك الشورى التي تعصم من الزلل والانفراد بالرأي الذي قد يصدر أحيانًا عن عدم فهم جيد للواقع، وقراءة حصيفة للتحديات التي تواجهنا، وأوضاع المسلمين الصامدين في بقاع شتى يتوقون إلى دعم مشايخهم وعلمائهم، لا أن يكونوا عونًا لظالميهم عليهم من حيث لا يشعرون، والله تعالى يقول الحق وهو يهدي إلى سواء السبيل.
أضف تعليقك