بقلم: سليم عزوز
"هرمنا"، ولأننا "هرمنا"، فلم تعد لدينا قدرة على تحمل الطريقة الانتقائية التي تتعامل بها المنظمات الدولية والحقوقية، مع قضية الصحفيين المعتقلين في مصر، فالتعامل يجري على قاعدة: "خيار وفاقوس"!
يقولون إن الإنسان كالغربال، وكلما صار الغربال قديما فإن ثقوبه تضيق. وكذلك الأول، فكلما تقدم به العمر، فإن "الخُلق يضيق"، فلا تتحمل أعصابه ما كانت تتقبله من قبل. وقد كنا في السابق نتجاوز هذا الاستفزاز الذي تقوم به هذه المنظمات، عندما لا تنطلق في مواقفها من احترام حقوق الإنسان، ولكن بالانتقاء بين من تنتهك حقوقهم، وعلى قاعدة اختيار الأشخاص، وكنا نعرض عن نقد ذلك من باب الإحراج، إلى أن فاض الكيل.
منظمة "مراسلون بلا حدود"، أصدرت مؤخراً بياناً انحازت فيه لاثنين من المعتقلين، أحدهما المدون "وائل عباس"، والثاني هو الصحفي "هشام جعفر"، وطالبت المنظمة الأمم المتحدة بمساءلة القاهرة رسميا بشأن احتجازهما. ومعروف أن القبض عليهما جاء في إطار سياسة التضييق على الرأي الآخر، والتنكيل بكل من هم ضد الانقلاب، سواء كان الموقف واضحاً وقاطعاً مثل "وائل"، أو مستتراً مثل "هشام"، والذي احتارت البرية في أسباب اعتقاله والتنكيل به، فالرجل له علاقة بمؤسسات رسمية في الدولة، مثل "الأزهر" و"الكنيسة"، ولم تنقطع هذه العلاقة بعد الانقلاب العسكري!
"مراسلون بلا حدود"، انطلقت بحكم التخصص من الدفاع عن حرية الصحافة التي جرى العصف بها منذ اليوم الأول للانقلاب، وتم إغلاق قنوات تلفزيونية بدون مسوغ قانوني، كما تم اعتقال صحفيين وعاملين فيها، بل والضيوف أيضاً، في اللحظة التي كان يعلن فيها وزير الدفاع بيانه بالانقلاب على الشرعية. وغضت المنظمات الحقوقية والدولية الطرف عن هذه الجريمة، ولم تر في العصف بالفضاء الإعلامي ما يستحق التنديد أو الاستنكار، وإن بدأت مؤخراً في التململ، ولكن على ذات القواعد القديمة، ووفق سياسة الكيل بمكيالين!
فبينما كان هناك عشرات الصحفيين في السجن لفترات طويلة، إذا بالأمين العام للأمم المتحدة يعرب عن قلقه لاعتقال الحقوقي حسام بهجت، عضو نقابة المحامين، وقال إن الأمم المتحدة تشعر بالقلق لاعتقال الصحفي حسام بهجت. وكان واضحاً أن ضغوطاً مورست على قائد الانقلاب، فتم الإفراج عنه بعد تجربة اعتقال قصيرة، ليحاكم من خارج السجن!
وعندما اعتقل آخر، هو "إسماعيل الاسكندراني"، كانت سياسة الانتقاء حاضرة، بإدانة اعتقاله دون غيره. وإذا كنا قد سمعنا أنه باحث، فإن الإدانة منحته صفة الصحفي، دون أن نعرف المعايير التي تعتمدها هذه المنظمات في منح الصفة!
لكن الضغوط في حالة الإسكندراني لم تؤت أكلها؛ لأن أداءه كان منصباً على سيناء وما يجري فيها، وهي قضية حساسة للنظام الانقلابي في مصر ولا يقبل تهاوناً فيها، ولا أعرف أين كان ينشر الباحث الإسكندراني أبحاثه حول سيناء، فاطلع عليه أهل الحكم، فقرروا الاستمرار في التنكيل به رغم الضغوط الخارجية!
وإذا كنت أتقبل الانتقاء من قبل منظمات حقوقية ودولية، والتي لا تتدخل إلا من أجل ما يعني الغرب بشكل شخصي، فيؤسفني أن منظمة مهنية تعتمد ذات السياسة، فتختزل أزمة حرية الصحافة في مصر في اثنين من بين العشرات، حيث تفيد تقارير "المرصد العربي لحرية الصحافة" أن أعداد الصحفيين المعتقلين تجاوزت الأربعين صحفياً. ومن المعروف أنه تم الإفراج عن البعض، مثل "أحمد سبيع"، و"هاني صلاح الدين"، بعد اعتقال دام أربع سنوات، وبدون أي إدانة من قبل هذه المنظمات، بل إن الأخير جرى اعتقاله للمرة الثانية دون أي اكتراث من "مراسلون بلا حدود"، وكأنه ألقي القبض عليه بتهمة قتل الرئيس السادات!
في هذه الأيام، تكون قد مرت على اعتقال زميلنا "إبراهيم الدراوي" خمس سنوات بالتمام والكمال، في ظروف سجن قاسية، وكان الاتهام الذي وجه له في البداية سرقة شقة، قبل أن يتم العدول عن ذلك بعد انتهاء التحقيق مباشرة، واعترافه بالجريمة المسخرة؛ لأنه قرر التلاعب بالمحقق، فسرقة شقة لا تستدعي حبسه احتياطيا. وفي اليوم التالي كانت الجهات المختصة قد أعدت عدتها، وكان الاتهام الذي لا يزال محبوساً احتياطياً بمقتضاه إلى الآن هو التخابر مع حركة حماس، وكان دليل الإدانة هو أرشيفه الصحفي، ومقابلاته الصحفية المنشورة مع قادة الحركة، وهم في القاهرة، في مفاوضات رسمية برعاية المخابرات العامة!
وإذ أدين بحكم مغلظ، وقضت محكمة النقض بإعادة محاكمته، فلا يزال إلى الآن محبوساً على ذمة القضية، رغم أن العلاقة بين الحكم العسكري في مصر وحركة حماس على ما يرام، ورغم أن قياداتها في زيارات رسمية متكررة إلى القاهرة. فهل تعلم "مراسلون بلا حدود" بقصة "إبراهيم الدراوي"، وهي مسلية، لو ركز فيها السادة قيادات المنظمة الدولية؟!
عموماً، فكما قلت إن سياسة الكيل بمكيالين قديمة، وقد تابعنا كيف نفرت هذه المنظمات خفافاً وثقالاً لمجرد أن النيابة العامة استدعت قبل ثورة يناير إبراهيم عيسى للمثول أمامها في قضية نشر. فبمجرد الاستدعاء، الذي كتبت يومها أنه لن يرتب أثراً، غدت هذه المنظمات خماصاً وبطاناً، ضد انتهاك حرية الصحافة في مصر، وصار هذا الاستدعاء عنواناً لهذه الانتهاكات، واستقبلت منظمات صحفية إقليمية الدولية المذكور، وقامت بتكريمه ومنحه جوائز "حرية الصحافة". وقد صار بقوة الدفع الدولي عنواناً لها، "لمجرد الاستدعاء"، وهو الذي لم يضبط متلبساً مدافعاً عن الصحافة وحريتها في أي مرحلة من مراحل حياته، فلم يدن اعتقال صحفي، ولم يستنكر إغلاق صحيفة، ولم يكتب عندما يكسر قلما.
وقد كان يمكن قبول هذا، لولا أن أكثر من خمسة صحفيين كانوا بالفعل في السجن، هم مجدي أحمد حسين ورفاقه في جريدة "الشعب"، كما أن العشرات تم تشريدهم بقرار السلطة بإغلاق الصحيفة، هذا فضلا عن الاعتداء البدني الذي قامت به الأجهزة الأمنية ضد عدد من الصحفيين في المحروسة، دون اكتراث من المنظمات، التي لا تدافع عن المهنة أو حرية الصحافة، ولا يشغلها انتهاك أو اضطهاد، إلا إذا كان الضحايا من الذين تربطهم علاقات طيبة بالجهات الغربية!
وللعلم أيضاً، فإن "مجدي أحمد حسين" معتقل الآن منذ سنوات، ومن سوء حظ "مراسلون بلا حدود" أنه ليس مسجوناً في قضية سياسية، فقد جرى سجنه في قضية نشر، وباتهام تطالب المنظمات الحقوقية برفعه من القانون، فالتهمة هي ازدراء الأديان.. تصوروا؟!
هل كان المطلوب أن يكون "مجدي حسين" صاحب أحد دكاكين حقوق الإنسان الممولة من قبل الغرب، ويدافع عن الشواذ والبهائيين، حتى يشعر الأمين العام للأمم المتحدة بالقلق لبقائه في السجن كل هذه السنوات؟!
ويا عزيزي مالك "مراسلون بلا حدود": أهلا وسهلا.. فقد هرمنا يا زلمة!
أضف تعليقك