أقبلت الشهور الحرم بنفحاتها، وعبيرها الذي يزكى النفوس ويصفي القلوب، وقد ارتفعت الهتافات مدوية في السموات والأرض (لبيك اللهم لبيك).
لقد هفت القلوب إلى بيت الله الحرام، وتطلعت الأعين إلى النظر إليه من كل حدب وصوب، والتهبت الألسن بالرجاء إلى رب السموات والأرض أن يرزقها الوقوف على ربوع عرفات.
يود كل مسلم أن يوفقه الله سبحانه للوقوف على عرفات يناجي عليه ربه، ويسكب الدمعات، متمنيا أن يعود مغفور الذنب.
إلا أن الواقع لا يمكن لكل مسلم من الوقوف بعرفة، لكن بيدي كل مسلم أن يهفو بقلبه مع الواقفين بعرفة، فينافسهم في عمل الصالحات، واجتناب المحرمات، فيصدق فيه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ما العمل في أيام العشر أفضل من العمل في هذه قالوا ولا الجهاد قال ولا الجهاد إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء}(رواه البخاري في صحيحة من حديث ابن عباس رضي الله عنهما).
إن المسلم في هذه الأيام يستطيع أن ينال المغفرة من رب الكون كما نالها كل حاج، وذلك إذا أقدم على العمل الصالح، ومنها:
قراءة القرآن وذكر الرحمن، قال رسول الله(ص): [اقْرَءُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لأَصْحَابِهِ](رواه مسلم)
المحافظة على الصلاة، قال تعالى:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ}(البقرة238)
سرور تدخله على قلب مسلم فتطرد عنه جوعا، وتقضي عنه دينا، يقول رسول الله (ص): [ما من إمام يغلق بابه دون ذوي الحاجة والخَلَّة والمسكنة إلا أغلق الله أبواب السماء دون خَلَّته وحاجته ومسكنته]"(رواه أحمد عن عمرو بن مرة الجهني).
تمشي في قضاء حوائج الناس، وتصلح بين المتخاصمين، قال رسول الله (ص):[ من نفَّس عن مؤمن كربة نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة](رواه مسلم عن أبي هريرة).
الصيام وقيام الليل وتكثر من الصدقة، قال رسول الله (ص):[ما منكم من أحدٍ إلا سيكلمه الله، ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، فينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، فينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة](في الصحيحين).
بر الوالدين وصلة الرحم، قال رسول الله (ص):[ من سره أن يمد له في عمره ، ويوسع له في رزقه ، ويدفع عنه ميتة السوء ، فليتق الله وليصل رحمه ]رواه البزار والحاكم عن علي كرم الله وجهه).
غض البصر وكف الأذى وحفظ اللسان، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا﴾[الأحزاب:58].
حسن التبعل وحسن النفقة على الأهل، قال تعالى: ﴿لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَئهَا﴾[الطلاق:7].
ولا تقتصر هذه الأيام على الأعمال الصالحة فحسب، بل وجب على المسلم أن يدفع الضرر فلا يؤذى إنسانا ولا حيوانا، ولتشع الرحمة من قلبه حتى تظل رصيد له في حياته.
لقد جاءت شريعتنا الغراء لرفع الضرر، ليس عن المسلمين فحسب، وليس على الناس فقط، بل رفعت الضرر عن كافة المخلوقات على ظهر الأرض، بل لا نكون مبالغين إن قلنا عن الكون كل الكون بما فيه ومن فيه.
إلا أن بعض المسلمين يقع في هذه الأمور فلا ينظر إلا لمصلحته وذويه، وهذا ما يتنافى مع القيم الربانية التي أوجبها في الحج، فنجد منهم من يسعى إلى الحصول على تأشيرة الحج بالرشوة أو الالتفاف على القانون، أو اخذ حق الغير، وهذه من الأضرار التي يقع فيها المسلم.
تشهد ساحة الحج الملايين من الناس التي جاءت ملبية لله رب العالمين، فتجد الغضب وقد تملك من البعض، و قد يسوء خلق بعض الناس خاصة في الزحام الشديد، فتجده يخرج عن المألوف فيضر البعض بالكلمات أو التصرفات.
بل من الأضرار أيضا انك تجد البعض لا يعتني بنظافته الشخصية، فيلقي بالمهملات في أي مكان، ويأكل ويشرب بالطريقة التي تؤذي الآخرين، ويلوث أماكن الوضوء وقضاء الحاجة، قال رسول الله (ص):[ اتقوا اللاعنين: الذي يتخلى في طريق الناس، وفي ظلهم](رواه مسلم عن أبي هريرة).
فعلى المسلم أن يأخذ بكل الأسباب التي تمنع من الإصابة بالمرض أو نقله للغير خاصة أن الحج يجمع أطياف مختلفة من البشر.
لكن الفاجعة الكبرى أن ينتهي موسم الحج وقد زهقت العديد من الأرواح وذلك بسبب التدافع الذي يحدث بين الحجاج، فيوقع بالعشرات من القتلى، مع أن الشرع الحنيف نهى عن هذا التدافع المقيت الذي ينتج عنه أضرار للآخرين.
وديننا يسر لا عسر فيه، وقد أباح لنا المحظورات عند الضرورات، فلا يجوز لمسلم من باب حرصه على أداء السنن والنوافل أن يرتكب المحظورات والكبائر، ولقد نهي النبي صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب أن يزاحم الناس على الحجر حتى لا يؤذي أحدا.
وما يتوجب على الحجاج من دفع الضرر يتوجب على كل مسلم في كل مكان يتواجد فيه أن يحرص على نفسه وعلى الآخرين، فلا يكن مصدر للقلق والآلام.
فأين أنت من الله في هذه الأيام؟
أين أنت من التعرض لنفحات رحمة الله في أيام العشر؟
أين أنت من التوبة النصوح في الأيام العشر؟
أين أنت من تحسين الأخلاق في أيام العشر؟
أين أنت من إعداد الأضحية ؟
وأسوق إليك وصية محمدية لتعينك على رسم أهداف، وتحدد مستهدفاتك من هذه الأيام العشر التي لربما لا تعود عليك مرة أخرى.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [اطْلُبُوا الْخَيْرَ دَهْرَكُمْ ، وَاهْرَبُوا مِنَ النَّارِ جُهْدَكُمْ ، فَإِنَّ الْجَنَّةَ لا يَنَامُ طَالِبُهَا وَإِنَّ النَّارِ لا يَنَامُ هَارِبُهَا ، وَإِنَّ الآخِرَةَ مُحَفَّفَةٌ بِالْمَكَارِهِ ، وَحَصَرَ مَوَارِدَهَا النَّوْمُ ، وَإِنَّ الدُّنْيَا مُحَفَّفَةٌ بِاللَّذَّاتِ وَالشَّهَوَاتِ , فَلا تُلْهِيَنَّكُمْ شَهَوَاتُ الدُّنْيَا وَلَذَّاتُهَا عَنِ الآخِرَةِ ، إِنَّهُ لا دُنْيَا لِمَنْ لا آخِرَةَ لَهُ ، وَلا آخِرَةَ لِمَنْ لا دُنْيَا لَهُ ، إِنَّ اللَّهَ قَدِ أَبْلَغَ فِي الْمَعْذِرَةِ وَبَلَّغَ الْمَوْعِظَةَ ، إِنَّ اللَّهَ قَدِ أَحَلَّ كَثِيرًا طَيِّبًا لَكُمْ فِيهِ سَعَةٌ ، وَحَرَّمَ خَبِيثًا فَاجْتَنِبُوا مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ ، وَأَطِيعُوا اللَّهَ ، فَإِنَّهُ لَنْ يَحِلَّ اللَّهُ شَيْئًا حَرَّمَهُ وَلَنْ يُحَرِّمَ شَيْئًا أَحَلَّهُ ، وَإِنَّهُ مَنْ تَرَكَ الْحَرَامَ ، وَأَكَلَ الْحَلالَ أَطَاعَ الرَّحْمَنَ ، وَاسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا ، وَاجْتَمَعَتْ لَهُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ هَذَا لِمَنْ أَطَاعَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ] (رواه البيهقي في " الزهد " (90/1 - 2).
أضف تعليقك