بقلم: هاني بشر
القتل خارج نطاق القانون جريمة، لكنه يتحول إلى شهوة ونشوة مع التكرار.. تنتقل الجريمة من حدث استثنائي إلى أداة لتسوية الخلاف وبسط النفوذ.. هكذا يقول علم النفس، أما التاريخ فله رأي مرعب، إذ يقول ما دام الجناة مطلقي السراح، فإن الجريمة مرشحة للتكرار مرة أخرى. فإذا مرت مذبحة ببلد فغالبا ستمر أخرى، وإذا أفلت المجرمون من العقاب فسيتجرأون على المزيد إذا واتتهم الفرصة. تجاربنا في العالم العربي تخبرنا بما هو أكثر من هذا (في سوريا وفلسطين مثلا).
فحين وقعت مجزرة حماة في سوريا عام 1982، كانت حدثا جللا هز العالم العربي، رغم عدم انتشار وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي كما هو الحال الآن، ومع ذلك، لم تعد للضحايا حقوقهم بعد أكثر من ثلاثين سنة، ولم يتم تقديم أي مجرم لعدالة محلية أو دولية. تكررت المذبحة على نطاق أوسع وأكبر، شملت كل سوريا. لم يعد أحد يذكر بشاعة مذبحة حماة الآن بعد مشاهد البراميل المتفجرة وسلاح غاز الأعصاب.. سبع سنوات من القتل الممنهج ومذابح مستمرة يُنسي بعضها بعضا.
أما في فلسطين، فلم يعد الأمر خافيا على أحد. إسرائيل ترتكب المجازر منذ أكثر من سبعين سنة بحق الفلسطينيين والعرب. فلإسرائيل أيادٍ سوداء في كل بقعة عربية محيطة بفلسطين المحتلة. هناك مجرزة في كل بلد؛ من مدرسة بحر البقر في مصر إلى قانا في لبنان، وغيرهما الكثير، ولم تتردد في أن تكرر المجازر في غزة كل بضعة أعوام. احترفت إسرائيل وسيلة القتل والمذابح، فكررتها.
يعني كل هذا أن ما حدث في ميدان رابعة العدوية منذ خمس سنوات قد يتكرر في المستقبل القريب أو البعيد. وحينها قد تحمل جريمة جديدة لقب أكبر مذبحة مصرية في التاريخ الحديث. لا أحد يتمنى هذا، لكن من لا يتعلم من دروس السياسة والتاريخ وعلم النفس، فلا يلومن إلا نفسه. فالمتهمون بارتكاب مذبحة رابعة مطلقو السراح، ولا تزال البلاد تغلي على صفيح ساخن وأفق العمل السياسي مسدود، ولا يعترف النظام أو القضاء بالجريمة، ولا ينقص هذا المشهد المدمر سوى انفجار شعبي لن يتردد هؤلاء في إخماده بمذبحة جديدة، بغض النظر عن شكل وطبيعة هذا الانفجار.
أولى مراحل الوقاية من المذابح المستقبلية هو الوعي بأنها ممكنة، وأن منع المزيد منها مقدم على أية مطالب أخرى. وهذا يعني أن تنعقد الإرادة الشعبية لتكون المطالب الحقوقية في صدارة المطالب الوطنية العامة في الداخل والخارج. كانت هناك فرصة لمدة ثلاث سنوات منذ اندلاع ثورة 25 يناير وحتى انقلاب تموز/ يوليو 2013، كي يصعد مطلب شعبي لتصديق مصر على معاهدة روما المنشئة للمحكمة الجنائية الدولية مثلا. الدول التي مرت بأهوال داخلية تعرف قيمة هذا التصديق، ولهذا صدقت دولة مثل البوسنة والهرسك وجنوب أفريقيا على المعاهدة. ولا غرابة أن تكون تونس من المصدقين على المعاهدة عام 2011، أي في سنة الثورة الأولى. وأتصور أن تصديق تونس المبكر كان أحد أدوات الحماية الرئيسية لها من أن تنزلق إلى ما حدث في مصر ودول أخرى؛ لأن الجاني يعرف أنه سيلاحق فورا.
الأمر الثاني هو توسيع نطاق الملاحقات القضائية الدولية بحق المتهمين بارتكاب مذابح رابعة النهضة حول العالم. فالغرض من هذه الملاحقات غالبا ليس وقوع أحدهم في قبضة السلطات، وإن كان هذا ليس مستبعدا وقد تكرر في حالات في دول أخرى، لكن أضعف الإيمان يقتضي ألا يشعر المجرم بالراحة، وأن يتجنب كثيرا من البلدان أثناء سفرياته الخارجية مخافة القبض عليه. فإذا تعثرت المحاسبة، فيكفي الملاحقة لتكون رادعا لارتكاب مزيد من المجازر.
الأمر الأخير والأهم، هو الاتفاق ولو نظريا وفكريا على مستقبل العدالة الانتقالية في مصر ومسارها. وهذه المسارات غالبا ما تبدأ بشكل شعبي ثم تأخذ طريقها للتطبيق على أرض الواقع، مع تغيير الوضع السياسي في أي مرحلة.
أضف تعليقك