وائل قنديل
بات الطريق إلى السجن، عبر مبادرة سياسية في مصر، أقصر مما عداه من طرق، إذ صار التعبير عن الرأي السياسي أخطر بكثير من الاعتداء على المال العام أو تهريب الآثار، أو جرائم القتل، ولن يكون مفاجئاً إذا استحدثوا جهازاً بوليسياً أطلقوا عليه "شرطة المبادرات"، ليقوم بدور البوليس السياسي فيما مضى من أيام الاحتلال، مع فارقٍ وحيد، يتمثل في إسناد مهمة التحرّيات وإعداد أدلة الاتهام لصحافيين وإعلاميين، بدلاً من وزارة الداخلية.
في ذلك، فإن قرار اعتقال السفير معصوم مرزوق صدر منذ أكثر من أسبوعين، في صيغة مقالات رأي في أعمدة الصحف اليومية المصرية، امتلأت بقائمة اتهامات وَصَمت الرجل بكل شيء من الإرهاب، إلى الخيانة الوطنية، مروراً بالسعي إلى هدم الدولة.
كل جريمة السفير، الضابط السابق في القوات المسلحة، أنه طرح تصوّراً للخروج من الأزمة الراهنة في مصر، بدا لأول وهلةٍ أنه لخدمة نظام الثلاثين من يونيو، وكان أقرب إلى محاولة للإصلاح داخل هذا النظام، لا إسقاطه، حتى أنني قلت إنه يستحق مكافأةً من نظام السيسي، كونه يعدم تماماً أي أثر مترتّب على جريمة الانقلاب على السلطة المنتخبة، ويشعل النار في الشرعية الناتجة عن ثورة يناير 2011.
غير أن النظام المسكون بأوهام العبقرية المتفرّدة، والتفوّق غير المسبوق، بات يرتجف من أي كلمة نقد، ويضمر عداءً فاحشاً لمن يقدم له نصيحة، أو اقتراحاً، مدفوعاً بهذا الهاجس الغريب المسيطر عليه، والذي يصوّر له أن مصر كانت والعدم سواء، قبل أن يصعد إلى سدة الحكم، محمولاً على"جريمةٍ ثوريةٍ"شارك بها الذين تلتهمهم السلطة الآن.
قبل أيام من اعتقال السفير معصوم مرزوق، كان الجنرال أحمد شفيق، المؤسس للثورة المضادة في مصر، وصاحب الفضل الأول في تمهيد الطريق أمام الجنرال السيسي للسيطرة على الحكم، كان يعلن على الملأ اعتزاله الحياة السياسية، بشكل قاطع ونهائي، حتى الحزب الذي أسّسه لم يعد يجرؤ على المشاركة فيه، مؤْثراً السلامة، وباحثاً عن أمتارٍ من البراح لقضاء شيخوخة سياسية وإنسانية هادئة.
والشاهد أن المعارضة، بمختلف أطيافها، يساراً ديمقراطياً اجتماعياً، ممثلاً في حمدين صباحي وخالد علي وآخرين، ويميناً قديماً، "الوفد"، ويميناً مستحدثاً، نجيب ساويرس وخلافه، وأيضا بطيفها العسكري، أعلنت منذ وقت طويل الدخول في حالة بياتٍ سياسي إجباري، وثّقته رسمياً عقب اعتداء بلطجية النظام على حفل إطار ما تسمّى "القوى المدنية الديمقراطية" في شهر رمضان الماضي، لتكتب السطر الأخير في تاريخ العمل السياسي الجماعي.
في ظل هذه الوضعية البائسة، طرح السفير مرزوق بيانه، أو مبادرته، في العراء، من دون أن يكون هناك ظهير سياسي، جمعي، يسنده، أو سقف من القوى الوطنية يحميه من مقذوفات النظام، إذ بدا الأمر وكأننا بصدد مبادرة من شخصٍ واحد، موجهةٍ إلى الحاكم الأوحد، بالدرجة الأولى، ومتوجهةٍ إلى الشعب الغائب، بالقمع الأمني، والتجويع الاقتصادي، بدرجة أقلّ، ومن هنا بقي صيداً سهلاً، في لحظة الانكماش السياسي للرموز والتيارات المعروفة في الداخل.
في المقابل، يمضي عبد الفتاح السيسي في طريقه إلى شطب السياسة من قاموس الحياة المصرية، مطمئناً إلى أن الظروف الإقليمية والدولية باتت منحازةً للاستبداد ضد مشروع التغيير في الوطن العربي، فلم يعد أحد ينبسّ ببنت شفة عن جرائم بشار الأسد في سورية، أو يُبدي انزعاجاً من عملية حرق اليمن على من فيه، بينما يتركّز الجهد كله على إنجاز مشروع دونالد ترامب، الساعي إلى فرض خريطة جديدة للمنطقة، وضعت وفقاً للتصور الصهيوني، وهو التصور الذي يتسابق العرب لتسويغه، واستثماره في المعارك البينية بين العواصم العربية.
وإذا وضعت في الاعتبار أن دوراً أساسياً تم إسناده لنظام السيسي في تنفيذ مشروع دونالد ترامب لفرض صفقة القرن الإسرائيلية، فإن أي معارضة، أو حتى مراجعة أو مناصحة، لسياساته تصبح جريمة، وتعويقاً للسيناريو المفروض على المنطقة، تقتضي توجيه ضربة باطشةٍ لمن يجاهر بها، فيكون مصيره الزنزانة، كما جرى مع الجنرال سامي عنان، رئيس الأركان السابق، والمستشار هشام جنينة، رئيس جهاز المحاسبات، وأخيراً، وليس آخراً، السفير مرزوق.
أضف تعليقك