• الصلاة القادمة

    العشاء 17:29

 
news Image
منذ ثانية واحدة

بقلم..طارق الكحلاوي

"لو أمكن الطبقة العليا أن تحافظ للأبد على موقعها، فلن يكون ذلك إلا بإشاعة حالة من الجنون الخاضع للسيطرة" (جورج أوريل، "1984").

ما يحصل في مصر السيسي بدمويته وكاريكاتوريته وجنونه وتعاسته؛ بصدد تحديد مصير الثورة المضادة عربيا. فهو نذير شؤمها. هو التجسيد الأمثل لمأزقها الوجودي، وأنها مسار خارج التاريخ، أو الأدق، هي حالة عناد دون جدوى ضد مسار التاريخ. بهذا المعنى، هي حالة تاريخية في سبيل الانتحار. يكفي أن نرى كل مرة سقطاته الفكاهية السوداء وانحطاطه المزري؛ حتى نزداد اقتناعا بذلك. ومثلما هو الحال في أي حالة تاريخية تتجه للانتحار، فنحن إزاء مظاهر متكررة.. تتكرر علامات المأزق الوجودي للثورة المضادة في كل وقت ومكان، وأهمها التحطيم التدريجي لدائرة الحلفاء، والحفر في القاع أكثر فأكثر، بحيث يصبح، تقريبا، الجميع عدوا. بهذا المعنى، أضحى حكم السيسي جنونا، لكن دون سيطرة، وبلا ضوابط.

آخر مظاهر الجنون الخارج عن السيطرة؛ حملة الاعتقالات الجديدة التي طالت هذا الأسبوع مساعد وزير الخارجية الأسبق السفير معصوم مرزوق؛ الذي لا يمكن اتهامه بأنه "إخواني" كما تفعل دائما أجهزة النظام. كان الاعتقال فقط لأن مرزوق طالب باستفتاء على بقاء حكم السيسي. لم يكن يقود خلايا إرهابية، وكان من بنات "السيستم" و"الإستبليشمنت" المصري. كان يرى ما يمكن أن يراه أي عاقل من داخل النظام: السيسي بصدد تحطيم أعمدة النظام ذاتها.

    آخر مظاهر الجنون الخارج عن السيطرة؛ حملة الاعتقالات الجديدة التي طالت هذا الأسبوع مساعد وزير الخارجية الأسبق السفير معصوم مرزوق


حملة الاعتقالات شملت أيضا شخصيات أخرى ساندت السيسي في بدايات الانقلاب، وتم اعتقالها لأسباب واهية. ومن هذه الشخصيات؛ رائد سلامة، وهو خبير اقتصادي، وعضو الهيئة العليا بحزب "تيار الكرامة" (حزب حمدين صباحي)، وجريمته أنه نشر مقالات تنتقد "إصلاحات" النظام الاقتصادية.. أيضا يحيي القزاز، أستاذ الجيولوجيا بجامعة حلوان، وأحد مؤسسي "حركة 9 مارس" لاستقلال الجامعات. ومنذ حوالي أسبوعين، تمت إحالته لمجلس تأديب في الجامعة بناء على شكوى قدمها عميد كليته عن آرائه السياسية على الفيسبوك.. وسامح سعودي، وهو شاب ينتمي لتنظيم "التيار الشعبي"، على أساس انتقاده للنظام، والذي تم اعتقال زوجته وأطفاله كرهائن حتى قام بتسليم نفسه.

لنأخذ كمثال رائد سلامة لنفهم أننا إزاء جنون بلا ضوابط. ففي حزيران/ يونيو الماضي، انتقد في تصريحات لصحف مصرية "الإصلاح الاقتصادي" لنظام السيسي، بجمل مخففة وبدون حدة؛ كالتالي: "إن بدائل الإصلاح الاقتصادي القائم حاليا، والذي أدى إلى رفع أسعار الوقود على المواطنين، هي ضم الصناديق الخاصة، لما سيوفر للدولة من أموال لسد عجز الموازنة، وإعادة تسعير الثروة المعدنية، واستعادة فروق أسعار الأراضي التي بيعت في عهد مبارك". وأكد في التصريحات ذاتها "ضرورة ترشيد الإنفاق الحكومي، وبالذات بنود المكافآت والمستشارين، وضم سفارات بالخارج لتوفير النفقات الخاصة بها، وإلغاء بند الاحتياطيات العامة من الموازنة، والوقف الفوري لبرامج الخصخصة وإعادة تشغيل الشركات والمصانع المغلقة، و البدء فوراً بالتخطيط لتغيير نمط الاقتصاد؛ من ريعي استهلاكي إلى أمنجي تنموي، وإعطاء الزراعة أولوية قصوى لتحقيق الاكتفاء الذاتي، وخاصة من الحبوب".

    نحن هنا إزاء آراء يمكن أن نجدها داخل منظومة الحكم ذاتها؛ تعبر عن الذكرى الناصرية في التسيير الاقتصادي للبلاد


نحن هنا إزاء آراء يمكن أن نجدها داخل منظومة الحكم ذاتها؛ تعبر عن الذكرى الناصرية في التسيير الاقتصادي للبلاد.. لسنا إزاء تصريحات ذي بعد سياسي مباشر تستهدف السيسي أو حكمه.. المشكلة مع أنظمة تتجه للانتحار، مثلما هو حال نظام السيسي، أنها ترتعد من "الحقيقة". لا يعني ذلك ضرورة أن كلام سلامة هو "الحقيقة"، مشكلته تحديدا أنه يسائل "الحقيقة" الرسمية التي ثبتها وأعلنها النظام، وهذه جريمة لا تغتفر. لا يوجد أفضل من الوصف الروائي لجورج أوريل لهذا المعنى.

النظام المستبد في رواية "1984"؛ أحد وزارات حكمه هي "وزارة الحقيقة"، وهنا يكتب أوريل أحد أشهر مقاطع الرواية: "كانت وزارة الحقيقة تختلف اختلافا بيّنا في مظهرها عن أي بناء آخر تقع عليه العين، فهي بناء هرمي ضخم من الإسمنت الأبيض اللامع يرتفع عاليا يناطح السحاب، طبقة فوق طبقة 300 متر في السماء، ومن مكان كان باستطاعة ونستون أن يقرأ على الحائط الأبيض كتابه ذات أحرف كبيرة بارزة؛ هي شعار الحزب المؤلف من جمل ثلاث:

- الحرب هي السلام
- الحرية هي العبودية
- الجهل هو القوة"

"الجهل هو القوة" هو أكثر الشعارات تعبيرا عن نظام السيسي.

    الثورة المضادة بهذا المعنى تشمل كل من حاول تعطيل ذلك بقصد أو غير قصد. يوجد إسلاميون في مسار الثورة وعلى ضفافه، كما يوجد إسلاميون في الضفة الأخرى، مثلما يوجد ليبراليون وشيوعيون على هذا الجانب أو ذاك


أخيرا تستحق الثورة المضادة هنا (أي في الحالة المصرية)؛ وقفة وتعريفا ينشأ حصرا من تعريف الثورة ذاتها. لنكن دقيقين هنا.. ليست الثورة، ولم تكن البتة، الإسلاميين بإخوانهم أو غيرهم، وإنما هي هذا التوجه العام لفرض دولة مدنية ديمقراطية قادرة على توفير الأمن وإسلام لكافة مواطنيها بدون تمييز، أيضا القادرة على توفير تنمية عادلة وتثمين سيادة الشعب ليس ضد المستبد المحلي فقط، بل أيضا ضد أي استبداد خارجي يمنع ذلك. الثورة المضادة بهذا المعنى تشمل كل من حاول تعطيل ذلك بقصد أو غير قصد. يوجد إسلاميون في مسار الثورة وعلى ضفافه، كما يوجد إسلاميون في الضفة الأخرى، مثلما يوجد ليبراليون وشيوعيون على هذا الجانب أو ذاك. لا يمكن لأي كان أن يعرّف نفسه "تقدميا" إن كان في صف الثورة المضادة، فـ"التقدمية" الوحيدة الممكنة هي تلك التي تقف في صف الثورة.

يبدو لي ذلك الاستطراد ضروريا كلما تعرضنا للشأن المصري، إذ دأب "تقدميون" مزيفون على تبرير دعم السيسي أو الصمت عليه؛ بتركيز النقد على "الإخوان" أحيانا بناء على أخطاء، بل خطايا، بعضها صحيح، وأهمها في رأيي وضع بيضهم بشكل كامل في سلة قيادة جيش هي نومنكلوتورا تقف على الضد تماما رمزيا ومصلحيا مع أي ثورة. يبقى أن كل ذلك بلا شك لا يمكن أن يوفر ذرة واحدة من الشرعية لنظام السيسي، وهو يقوم يوميا بكل ما في وسعه لإدانة نفسه، وتقويض كل إمكانيات التبرير وحشر نفسه في مكان واحد. جنون بلا ضوابط.. نفس المكان الذي يقبع فيه مجانين مثل نيرو حارق روما، وموسوليني، وبول بوت.

 

أضف تعليقك