كما ساهمت مسيرات العودة في عودة الروح للقضية الفلسطينية التي كانت تعاني الجمود، فإن موجة الاعتقالات الأخيرة لبعض الرموز المصرية، وما سبقها من ملاحقات وتحركات ومبادرات (حتى وإن كانت هزيلة أو غير عملية) أعادت الروح أيضا، ولو جزئيا، للقضية المصرية التي اختفت تقريبا من أجندة الاهتمامات الدولية مع تقدم قضايا أخرى أكثر إلحاحا، سواء اليمن أو سوريا أو ليبيا، أو تأزم العلاقات الأمريكية التركية، ومن قبلها تأزم العلاقات الأمريكية الإيرانية، أو حتى الأمريكية الأوروبية على خلفية الحرب التجارية الجديدة، أو تحقيقات مولر في فساد الرئيس الأمريكي، واحتمالات عزل ترامب.
موجة الاعتقالات الأخيرة لبعض الرموز المصرية، وما سبقها من ملاحقات وتحركات ومبادرات (حتى وإن كانت هزيلة أو غير عملية) أعادت الروح، ولو جزئيا، للقضية المصرية
حظيت الاعتقالات الأخيرة في مصر، والتي طالت بعض الرموز المدنية، مثل السفير السابق معصوم مرزوق والدكتور يحيي القزاز والدكتور رائد سلامة وآخرين، بتغطية إعلامية دولية بارزة، على عكس التجاهل لاعتقالات سابقة، سواء لقيادات أو نشطاء إسلاميين أو ليبراليين، كما تداعت منظمات المجتمع المدني العالمية لإدانة هذه الاعتقالات. ومن المحتمل أن يتصاعد الأمر إلى مستويات دولية أخرى، ربما تصل إلى جنبات الأمم المتحدة.
سعى نظام عبد الفتاح السيسي خلال السنوات الماضية لإقناع الإقليم والعالم باستقرار حكمه تماما، وانتهاء أي معارضة حقيقية له، واضطرت غالبية العواصم للتعامل مع هذا النظام، ومنحته بعض العواصم دعما ماليا وسياسيا ساهم في تعزيز سيطرته على الحكم؛ التي تمت أصلا من خلال استخدام أدوات القمع الرهيبه.
سلسلة المبادرات والنداءات التي انطلقت خلال الأسابيع الماضية من شخصيات تنتمي لمعسكر 30 حزيران/ يونيو بشكل عام، والتي كانت أبرزها مبادرة السفير معصوم مرزوق، لم يكن متوقعا لها أن تحدث تغييرا دراماتيكيا في المشهد السياسي، ولكنها أسهمت إيجابيا في مسألتين، أولاهما تأكيد وجود أزمة سياسية في مصر تحتاج إلى حل، حتى يمكن إنقاذ الوطن والشعب من هذا الوحل الذي أدخله فيه نظام السيسي، وثانيهما هو المساهمة في صناعة مناخ تصالحي حواري بديلا للمناخ الإستئصالي الإقصائي الاستقطابي الذي ساد خلال السنوات الماضية وساهمت فيه السلطة وأطراف المعارضة نفسها. ورغم أن السلطة تعاملت مع تلك المبادرات والنداءات في البداية بإهمال وتجاهل، إلا أنها أدركت خطورة التأثيرات الجانبية لها، والتي أشرت إلى اثنتين منها. ومع تحفظي على مبادرة السفير معصوم، إلا أن النقطة العملية فيها كانت هي الدعوة لاجتماع في ميدان التحرير يوم 31 آب/ أغسطس حال رفض السلطة للنداء. ورغم القناعة التامة بأن النزول لن يكون في صورة جماهير هادرة، وكان على الأغلب سيقتصر على بضع أفراد إلا أن مجرد نزول هؤلاء الأفراد إلى الميدان الذي أغلقته السلطة تماما في وجه أي حراك جماهيري معارض يمثل خرقا في هذا الجدار الذي فرضته السلطة. ويمكن لهذا الخرق أن يتسع تدريجيا، كما أن السلطة المسكونة بـ"بعبع الإخوان" تعتقد أن دخول بضع أشخاص للميدان سيجعله مفتوحا أمام جماهير الإخوان ومناصري الشرعية الذين قد يملأونه في ساعات معدودة.
على الأرجح، كان هناك اتجاهان داخل السلطة في طريقة التعاطي مع دعوة السفير معصوم؛ قدرت إحداها عدم جدية المبادرة، وعدم استجابة أحد لنداء النزول، ومن هنا رأت تجاهلها، مع ترك الحرية للسفير معصوم ورفاقه للحديث عبر المنابر المحدودة، وغالبها خارج مصر، وحين يحل موعد الاجتماع ويظهر الميدان خاويا، فإنها ستعتبر الأمر استفتاء جديدا لصالح المشير السيسي، وخصما من المعارضة التي فشلت في حشد أي عدد.. أما الرؤية الثانية، فهي التي تغلبت عليها الهواجس من إمكانية فتح كوة في الجدار الصلب الذي فرضته على الميدان منذ انقلاب الثالث من تموز/ يوليو 2013 وحتى الآن، واحتمال نزول أعداد، حتى وإن كانت قليلة، إلا أنها ستكسر حاجز الخوف لدى الكثيرين وستشجعهم على النزول لاحقا. وقد رصدت الأجهزة الأمنية اتصالات بين الشخصيات التي تم اعتقالها للتجهيز للتجمع في الميدان، فبادرت إلى اعتقالها فورا قطعا لأي طريق نحو الميدان.
مع استمرار انكشاف سوءات النظام الحاكم في مصر، تنكشف أيضا سوءات معارضته التي لم تنجح حتى الآن في الاتفاق على برنامج عمل موحد للخلاص منه رغم تعدد الدعوات والصرخات على مر السنوات الخمس الماضية، إذ لا تزال حالة الاستقطاب التي ولدت بعد ثورة يناير قائمة في نفوس قادة هذه المعارضة، والذين يكرهون بعضهم البعض بأكثر ما يكرهون النظام، ويتشاتمون فيما بينهم بأكثر ما يوجهون سهاهم نحو النظام، وهو ما يظهر عند كل مصيبة تلم بفريق منهم؛ فيشمت فيها الفريق الآخر، رغم أن تلك المصائب مصدرها واحد، وهو النظام الذي يوزع قمعه على كل ألوان المعارضة حاليا، بما فيها أولئك الذين ساندوه قلبا وقالبا من قبل، وكانوا جزءا من حملاته المحلية والدولية، وجزءا من آلته العسكرية.
قد تمثل موجة الاعتقالات الأخيرة وما صاحبها من اهتمام دولي فرصة جديدة للمعارضة المصرية للملمة صفوفها، وتجاوز خلافاتها، والاتفاق على برنامج الحد الأدنى، وهو إنقاذ مصر من هذا الحكم الذي يتبجح ببيعه للوطن، وقتل أبنائه، وسجنهم وتعذيبهم، وخنق شعبه بزيادت أسعار لا يحتملها المواطن البسيط أو حتى المتوسط، ولم يعد أمام المعارضة المصرية أي مبرر لاستمرار النزاع واستدعاء خلافات الماضي، بديلا عن طرح رؤية للمستقبل. وإذا أفلتت هذه الفرصة من المعارضة فلا تلومن إلا نفسها، ولينتظر الشعب قيادة ونخبة جديدة قادرة على تحقيق حلمه.. "وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم".
أضف تعليقك