• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانية واحدة

بقلم: د. جابر قميحة

كمدخل لمضمون هذا المقال أُذكّر الناقد (وأقصد الناقد بمفهومه الواسع في مجال العلوم الإنسانية من أدب وسياسة واقتصاد وعقائد وتاريخ.. إلخ) أقول أُذَكِّره بعدد من القواعد المنهجية التي يجب أن يأخذ نفسه بها، ومن أهمها:

1 ـ التجرد من الهوى، وتناول الموضوع بعقلانية موضوعية بريئة من الحب والمجاملة والحقد والكراهية.

 

2 ـ أن يكون حكمه على الشخصية أو الإنتاج بريئًا من التعميم انطلاقًا من شريحة أو جزء من العمل.

 

3 ـ الاعتماد على المصادر الأصلية دون اعتماد على "المراجع الوسيطة"، كأن يكتب الناقد "وأنقل لكم ما كتبه الدكتور فلان من أن طه حسين كتب في كتابه في الشعر الجاهلي كذا... وكذا". بل عليه أن يأخذ النص من كتاب طه حسين نفسه.

 

4 ـ النظر إلى النص والحكم عليه كجزء من أعمال المنقود، فلا يُعزل النص عن بقية إنتاج المفكر، وإلا لكان من حق الناقد أن يحكم على "أبي نواس" بأنه "شاعر الزهد والتوبة" اعتمادًا على قرابة عشرين قصيدة له محورها الزهد في الحياة والتوبة إلى الله. مع أن هذه القصائد لا تعد شيئًا- كمًّا وكيفًا- إذا قيست بقصائده في التهتكيات والخمريات، والشذوذيات.

 

5 ـ عدم إغفال طبيعة العصر الاجتماعية والسياسية والعلمية وبصماته على المنقود.

 

6 ـ عدم الانبهار بآراء الكبار والمشاهير واعتبار ما يقولونه حقائق لا تنقض، وهذا ما يسميه فرانسيس بيكون "أوهام المسرح"، وقد عرفها بأنها تلك التي انتقلت إلينا من الفلاسفة والمفكرين، أي تلك الأفكار التي نتلقاها دون تمحيص. ولذلك فإن (بيكون) اقترح علينا أن نتحلى بالعقل النقدي أكثر من النقلي كي نؤسس لمعرفة سليمة.

 

وهو منظور إسلامي قبل ميلاد بيكون بقرون، ونجد ذلك في عشرات من الآيات القرآنية، ومنها قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)﴾ (المائدة).

 

ومن قبيل الإنصاف أُذكر القارئ بأن سيد قطب ترك عشرات من الكتب في الإسلاميات والأدب والنقد والشعر، وكَتَبَت عنه عشرات من الأطروحات الجامعية (ماجستير ودكتوراه) غير أن الذي دفعني إلى ذكر هذه القواعد المنهجية المعروفة أن كثيرين يَلِغون بأقلامهم في شخصية سيد قطب رحمه الله، اعتمادًا على كتابه "معالم في الطريق"، معزولاً عن بقية أعطياته الفكرية الأخرى، وعلى نحوٍ فيه من التطرف والإسراف والشطط والتهويل الكثير والكثير.

 

وسيد قطب رحمه الله لقي ربه مظلومًا، فقد واجهه الحكام الظالمون باتهامات لا أساس لها من الصحة، وليس هذا هو موضوع مقالنا، ولكني أتحدث عن بعض الظلم الذي امتـد إليـه بعد مماتــه. ومن ذلك:

 

أنه بعد إعدامه رحمه الله عملت الأقلام عملها، ولا أقصد الأقلام المريضة التي تكتب في الصحف الصفراء الكالحة، ولكني أقصد ما شاهدته من كتب مطبوعة طباعة فاخرة في بعض البلاد العربية وتباع بأسعار رمزية، وكلها مطاعن في الإخوان ودعوتهم وقادتهم، ونال سيد قطب منها الحديث الأوفى: "فهو باطني يدعو إلي عقيدة "الحلول" ووحدة الوجود, وهو يناصر دعوة عبد الله بن سبأ اليهودي, وأنه عاش طيلة حياته رقيق الدين, مستهينًا بالعقيدة. وأنه.. وأنه...

 

ولو صحت هذه الافتراءات التي كتبها "علماء"(!!!) طوال اللحى لكان سيد قطب زنديقًا مارقًا من الملة والعياذ بالله.

 

وظلم باللسان..

وفي هذا المقام أذكر واقعة تتلخص في أن أحد العلماء المصريين زار الكويت سنة 1974م, وهو معروف عنه في كتاباته بانتصاره للتراث العربي وحملاته على التغريب, وأنا أشهد له بذلك.

 

 ومعروف أن "الديوانيات" لازمة من لوازم المجتمع الكويتي.. والديوانية قاعة واسعة تُفتح مساء كل خميس, ويحضرها من يشاء, وهم غالبًا من أهل الأدب والعلم وذوي الوجاهة في المجتمع, ويناقَش فيها موضوع أو موضوعات متعددة.. بصورة عفوية. والكلام ذو شجون.

 

ورحب صاحب الديوانية بالعالم الضيف، ونقل إليّ أكثر من واحد تفاصيل ما حدث: كان "العالم" هو المتحدث الرئيسي.. بل المتحدث الوحيد, وبدأ بداية سيئة بالهجوم الشديد على الإخوان ومرشدهم حسن البنا، ووصفهم |"بالعمالة", وقدم الدليل "الحاسم جدًّا" على هذه الإدانة بأن جماعة الإخوان نشأت في منطقة الإسماعيلية؛ حيث يهيمن المستعمرون الإنجليز ويسيطرون على كل الأجهزة في الإسماعيلية ومنطقة قناة السويس.

 

فلما اعترض أحد الطلاب الجامعيين بقوله: هذا شأن كل الدعوات تنشأ في مناطق صعبة وبلاد عديمة الإيمان.. شأنها شأن مكة.. نهره الأستاذ الكبير بحدَّة.. وصرخ في وجهه: أتشبه حسن البنا برسول الله صلى الله عليه وسلم؟! يا "أخينا أنت".. يوم ما تِعْرَف إزاي تتطهر من النجاسة.. "ابقى" تعال جادل أسيادك. وانسحب الطالب من الديوانية ومعه عدد من الحاضرين وهم يشعرون بالأسى والحزن.

 

وجاء الدور على سيد قطب

ولما سأله أحدهم عن رأيه في ظلال القرآن امتقع وجهه, وانطلق يجرّح "سيد قطب" بألفاظ لا تصدر من مسلم يملك الحد الأدنى من الذوق والأدب؛ مما يدفعنا إلى إغفالها, وكان أكثر ما قاله اعتدالاً هو: الإخوانبقلم: د. جابر قميح  دول "دَوْشُونَا" بما يسمى "في ظلال القرآن", وأنا أتحدى أي واحد يريني أين "التفسير" في كتاب قطب هذا؟

 

واستأنف "الأستاذ الكبير" منظومته الخسيسة في تجريح الشهيد سيد وكل ما كتب, وخصوصًا "في ظلال القرآن"، ولم يعلق صاحب الديوانية على أية كلمة مما قاله "الضيف الأستاذ", تأدُّبًا منه وكرمًا. وأخذ الحاضرون يغادرون الديوانية.. واحدًا واحدًا, ولم يبق مع الضيف إلا خمسة هم المضيف ورجال الأسرة.

 

قال واحد ممن نقل إلينا الواقعة المؤسفة: قطعًا الرجل لم يقرأ في ظلال القرآن ولو قرأه لغيّر رأيه.

 

قلت: بل قرأه قراءة جيدة, وفهمه فهمًا دقيقًا, ورأى ما فيه من تفوق سيد قطب وعبقريته, ولكن الحسد أكل قلبه, وطمس عقله، فالرجل لا يملك سماحة العالم ونبله وسعة صدره, ولم يرزقه الله سعة أفق الداعية وأسلوبه الواعي المتزن, ومن هنا جاء إخفاقه ذريعًا في تكوين "جماعة إسلامية" يضرب بها الإخوان ويوقف بها مسيرتهم.

 

 ولكني أقول: "شكرًا" للرجل "الأستاذ جدًّا"؛ إذ فتح بحقده على دعوة الإخوان وعلى سيد قطب وما كتب عيون الناس وعقولهم وقلوبهم, وخصوصًا "ظلال القرآن" وذلك من حيث لا يقصد. وهذا ما نسميه "الإيحاء العكسي" أي الإيحاء الذي يأتي بنتيجة عكس ما حرص عليه هذا "الأستاذ جدًّا".

 

وفي النقد: ممنوع سيد قطب

ولا أقصد بهذه الكلمة السيد جابر عصفور الذي كتب في الأهرام مقالات عن النقاد في القرن العشرين لم يشر فيها- مجرد إشارة- لسيد قطب. إنما أقصد واقعة خلاصتها أن وزارة التربية والتعليم المصرية قررت سنة 1965م كتابًا باسم "فصول مختارة من النقد" على الصف الثاني من معاهد المعلمين القسم الخاص (سنتين بعد الثانوية العامة) والكتاب يضم أكثر من عشرة فصول من النقد لأساتذة مختلفين، وفي الكتاب فصل لسيد قطب عنوانه "القيم الشعورية في العمل الأدبي"، وهو مستل من كتابه (النقد الأدبي أصوله ومناهجه) ولم يلتفت أي طالب لوجود هذا الفصل في الكتاب؛ لأنه لم يكن ضمن ستة فصول اختيرت من الكتاب مقررًا. وصدر أمر رياسي بجمع الكتاب من الطلاب, وإعادته لهم بعد نزع هذا الفصل وحرقه، ولم يُحضر الكتاب إلا قرابة نصف الطلاب, وتم تشكيل لجنة في كل معهد لحرق الفصل المنزوع, مع أنه أدبي نقدي بحت, وأعيدت الكتب إلي أصحابها الذين لا يزيدون على النصف, واعتقد الطلاب أن في الفصل المنزوع ما هو مهم خطير, فقرأه واستوعبه من لم يُحضروا كتبهم, وتمكن الآخرون من قراءته كذلك, بل إن بعض المكتبات طبعت الفصل في كتيبّ صغير عنوانه "النقد المرفوض" بقلم سيد قطب, ووُزع هذا الكتيب على أوسع نطاق، ولو "سكت" المسئولون العباقرة في وزارة التربية والتعليم ما التفت إلى هذا الفصل أحد. والفصل- كما أشرت- لم يكن مقررًا مع أنه كان ضمن فصول الكتاب.

 

إنها محارق أقيمت لدعوة الإخوان وكتبهم وخصوصًا كتب سيد قطب. وهي تنضح بالكذب والتجريح لسيد قطب والإخوان. وكذبوا.. وهم بمحارقهم لا يحرقون إلا أنفسهم المخروبة, ومنطقهم الهش المنتفش.. أما الإخوان ودعوتهم فخرجوا من هذه المحارق كالذهب الإبريز, وهم بحمد الله في تزايد ممتد, وقوة مطردة, ونشكر "الحاقدين الحارقين المحروقين", ومرة أخرى حققت هذه الدعاوى والادعاءات الكاذبة عكس ما تغيّاه أصحابها, وأصبح لدعوة الإخوان وسيد قطب وجود وكيان في هذه البلاد, ومنها- بل أهمها- ما لم يعرف الأحزاب من قبل.

 

وأذكّر القراء بالبيتين الخالدين:

وإذا أراد الله نشر فضيلــــــــة *** طُويت أتاح لها لسان حســـــود

لولا اشتعال النار فيما جاورت *** ما كان يعرف طِيبُ عَرْف العُود

وأدعو من يتصدى للكتابة عن سيد قطب أن يراجع القواعد المنهجية التي ذكرتها في المدخل؛ فسيد قطب رحمه الله عاش مفكرًا موسوعي الثقافة غزير العطاء في الفكر الإسلامي والأدب والنقد والتاريخ والتفسير، كما أنه شاعر مطبوع.

ولنا عودة لاستيفاء حديثنا عن سيد قطب رحمه الله.

 

 

أضف تعليقك