إن الله سبحانه وتعالى جعل من سنته في الحياة: أن أولياءه فتنة لأعدائه، وأعداءه فتنته لأوليائه، والملوك فتنة للرعية، والرعية فتنة لهم، والرجال فتنة للنساء، وهن فتنة لهم، والأغنياء فتنة للفقراء، والفقراء فتنة لهم، وابتلى كل أحد بضد جعله متقابلاً، فما استقرت أقدام الأبوين على الأرض إلا وضدهما مقابلهما، واستمر الأمر في الذرية كذلك إلى أن يطوي الله الدنيا ومن عليها.
ودواء الفتن الصبر الجميل، فإن صبر العبد كانت الفتنة ممحصة له، ومخلصة من الذنوب كما يخلص الكير خبث الذهب والفضة، فالفتنة كير القلوب ومحك الإيمان، وبها يتبين الصادق من الكاذب.
اقتران الفتنة بالصبر في القرآن:
أصل الفَتْنِ: إدخال الذّهب النار لتظهر جودته من رداءته، واستعمل في إدخال الإنسان النار، قال تعالى: ﴿يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13)﴾ (الذاريات)، والْفِتْنَةُ من الأفعال التي تكون من اللّه تعالى، ومن العبد كالبليّة والمصيبة، والقتل والعذاب وغير ذلك من الأفعال الكريهة، ومتى كان من اللّه يكون على وجه الحكمة، ومتى كان من الإنسان بغير أمر اللّه يكون بضدّ ذلك (1).
قرن الله سبحانه الفتنة بالصبر في قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ﴾ (الفرقان: من الآية 20).
قال الزجاج: أي: أتصبرون على البلاء فقد عرفتم ما وجد الصابرون.
فالرسول فتنة للمرسل إليهم واختبار للمطيعين من العاصين والرسل فتناهم بدعوة الخلق، والغني فتنة للفقير والفقير فتنة للغني، وهكذا سائر أصناف الخلق في هذه الدار دار الفتن والابتلاء والاختبار.
والقصد من تلك الفتنة (أَتَصْبِرُونَ) فتقومون بما هو وظيفتكم اللازمة الراتبة فيثيبكم مولاكم أم لا تصبرون فتستحقون المعاقبة؟ (2).
وإنَّ من أشدَّ الفتن التي تُهْلك غير قليل من المؤمنين في زماننا فتنة إعلاء ذوي الأمر والسلطان من شأن أهل الفسق والعصيان وتقريبهم وتوليتهم كثيرًا من شئون البلاد والعباد، وإغداق الأموال وصنوف التكريم عليهم وإبعاد أهل العلم والتقوى والصلاح، والتغافل عن تكريمهم إذا ما أحسنوا، بل وإبعادهم عن مسرح الحياة حتى لا يُحْدثوا التأثير والتغيير في الأمة، كما قال تعالى على لسان قوم لوط: ﴿أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾ (الأعراف: من الآية 82).
فعلى أهل الحق في زماننا هذا الصبر على دعوة أقوامهم، وتحمل الإيذاء منهم فهو الدواء لهذه الفتن، والله وعد الصابرين بتوفية الأجر بغير مكيال ولا ميزان كما قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ (الزمر: من الآية 10). قال الأوزاعي- رحمه الله: ليس يوزن لهم ولا يكال، إنما يغرف لهم غرفًا (3).
وقرن الله سبحانه الفتنة بالصبر في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (110)﴾ (النحل).
فمن صبر حين عزم الأمر، ولم يجنح إلى جانب الرّخص، وأخذ في الأمور بالأشقّ أكرم اللّه حقّه، وقرّب مكانه، ولقّاه في كل حالة بالزيادة، وربحت صفقته حين خسر أشكاله، وتقدّم على الجملة وإن قلّ احتياله (4).
والصبر المطلوب: هو الصبر الجميل: الذي لا شكوى فيه للخلق، فأما شكوى الأحوال إلى الله ذي الجلال فهو مطلوب.
وقرن الله سبحانه الفتنة بالصبر في قوله تعالى: ﴿إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَّهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27)﴾ (القمر).
أي: اختبارًا لهم؛ أخرج الله لهم ناقة عظيمة عُشراء من صخرة صمَّاء طبق ما سألوا، لتكون حجة الله عليهم في تصديق صالح، عليه السلام، فيما جاءهم به.
ثم قال آمرًا لعبده ورسوله صالح- عليه السلام-: ﴿فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ﴾ أي: انتظر ما يؤول إليه أمرهم، واصبر عليهم، فإن العاقبة لك والنصر لك في الدنيا والآخرة (5).
والاصطبار: هو التلذذ بالبلوى والاستبشار باختيار المولى، وهذا هو الصبر على الله وهو صبر العارفين فيقال الاصطبار افتعال من الصبر كالاكتساب والاتخاذ وهو مشعر بزيادة المعنى على الصبر كأنه صار سجية وملكة(6).
فعلى العلماء والأولياء أن يُصَبِّروا أنفسهم على دعوة الناس، وتحمل الأذى منهم فالطريق الموصل إلى الله جل جلاله، قد صبر فيه أولو العزم من الرسل، ولم يستعجلوا حتى كانت العاقبة لهم.
اقتران الفتنة بالصبر في السنة النبوية:
عَنِ الْمِقْدَادِ بْنِ الأَسْوَدِ قَالَ ايْمُ اللَّهِ لَقَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ "إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنَ إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنَ إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنَ وَلَمَنِ ابْتُلِىَ فَصَبَرَ فَوَاهًا" (7).
فالحديث يثني: على من صبر على ما يقع في الفتن، وصبر على ظلم الناس له، وتحمل أذاهم، ولم يدفع عن نفسه.
وعَنْ أَبِى ذَرٍّ قَالَ: قَالَ: لِي رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- "يَا أَبَا ذَرٍّ". قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ.
فَقَالَ "كَيْفَ أَنْتَ إِذَا أَصَابَ النَّاسَ مَوْتٌ يَكُونُ الْبَيْتُ (8) فِيهِ بِالْوَصِيفِ (9)". يَعْنِى الْقَبْرَ. قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ أَوْ مَا خَارَ اللَّهُ لِي وَرَسُولُهُ. قَالَ "عَلَيْكَ بِالصَّبْرِ". أَوْ قَالَ "تَصْبِرُ"(10).
فالحديث دال على أن الفتن تكثر، وداؤها الصبر.
قال الخطابي- رحمه الله-: يريد أن الناس يشتغلون عن دفن موتاهم حتى لا يوجد فيهم من يحفر قبرًا لميت ويدفنه إلا أن يعطى وصيفًا أو قيمته. وقد يكون معناه أن مواضع القبور تضيق عنهم، فيبتاعون لموتاهم القبور كل قبر بوصيف (11).
نموذج أم المؤمنين عائشة وصبرها الجميل على فتنة الإفك:
تحكي لنا أم المؤمنين عائشة عن حادث الإفك فتقول: دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَسَلَّمَ ثُمَّ جَلَسَ- قَالَتْ- وَلَمْ يَجْلِسْ عِنْدِي مُنْذُ قِيلَ لِي مَا قِيلَ وَقَدْ لَبِثَ شَهْرًا لاَ يُوحَى إِلَيْهِ في شَأْنِي بِشَيْءٍ- قَالَتْ- فَتَشَهَّدَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- حِينَ جَلَسَ ثُمَّ قَالَ "أَمَّا بَعْدُ يَا عَائِشَةُ فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وَكَذَا فَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُكِ اللَّهُ وَإِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبٍ ثُمَّ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ". قَالَتْ فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مَقَالَتَهُ قَلَصَ دَمْعِي حَتَّى مَا أُحِسُّ مِنْهُ قَطْرَةً فَقُلْتُ لأَبِي أَجِبْ عَنِّي رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِيمَا قَالَ. فَقَالَ وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقُلْتُ لأُمِيِّ أَجِيبِي عَنِّي رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقُلْتُ وَأَنَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ لاَ أَقْرَأُ كَثِيرًا مِنَ الْقُرْآنِ إِنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ عَرَفْتُ أَنَّكُمْ قَدْ سَمِعْتُمْ بِهَذَا حَتَّى اسْتَقَرَّ في نُفُوسِكُمْ وَصَدَّقْتُمْ بِهِ فَإِنْ قُلْتُ لَكُمْ إِنِّي بَرِيئَةٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ لاَ تُصَدِّقُونِي بِذَلِكَ وَلَئِنِ اعْتَرَفْتُ لَكُمْ بِأَمْرٍ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ لَتُصَدِّقُونَنِي وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مَثَلاً إِلاَّ كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾ (يوسف: من الآية 18).
وكان نتيجة ثقتها بالله جل جلاله، وصبرها الجميل، أن أنزل الله جل جلاله براءتها من فوق سبع سماوات غيرة عليها وعلى رسوله-صلى الله عليه وسلم- قرآنًا يتلى إلى يوم القيامة، وهذا لعظم شأنها عند الله وعند رسول الله.
وأصبحت هذه الفضيلة تاجًا لها يُحدث بها السلف، فكان مسروق رحمه الله إذا حدث عن عائشة قال: حدثتني الصديقة بنت الصديق، حبيبة رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، المبرأة من فوق سبع سماوات.
من فضائل الصبر عند الفتن:
من فضائل الصبر عند الفتن والبلايا أنه يحول الهزيمة إلى نصر، والمحن إلى منح، فقد حكى الله تعالى في كتابه عن أصحاب ذلك النبي لما قاتل ومن معه فهزموا فكان موقفهم من الحدث موقفًا صحيحًا وكان من ذلك صبرهم، وقد أثنى الله عليه لذلك: قال تعالى: ﴿وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)﴾ (آل عمران).
ومن فضائله: أن الصابر في الفتن الناجي منها يصبح قدوة حسنة يتأسى به الصالحون.
من أسباب النجاة من الفتن:
1- يجب علينا أن لا نعطي من أنفسنا أسباب الفتن: قال بعضهم: "من أعطى من نفسه أسباب الفتنة أولاًً، لم ينج آخرًا، ولو كان جاهدًا".
2- تحمل الأذى عند قيام الفتن، والبعد عن المشاركة في الشر.
3- اللجوء إلى الله بالدعاء: كما قال الصحابة- رضي الله عنهم-: "نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن" (12).
4- اتقاء الفتنة بالتقوى: عن بكر المزني- رحمه الله- قال: "لما كانت فتنة ابن الأشعث قال طلق بن حبيب: اتقوها بالتقوى. فقيل له: صف لنا التقوى، فقال: العمل بطاعة الله، على نور من الله، رجاء ثواب الله، وترك معاصي الله، على نور من الله، مخافة عذاب الله".
قال الذهبي: أبدع وأوجز، فلا تقوى إلا بعمل، ولا عمل إلا بتروٍ من العلم والإتباع، ولا ينفع ذلك إلا بالإخلاص لله، لا ليقال: فلان تارك للمعاصي بنور الفقه، إذ المعاصي يفتقر اجتنابها إلى معرفتها، ويكون الترك خوفًا من الله لا ليمدح بتركها، فمن داوم على هذه الوصية فقد فاز (13).
نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن.. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
----------------
1- مفردات الراغب: 624.
2- السعدي: 271.
3- تفسير ابن كثير :7/ 89.
4- لطائف الإشارات :2/ 324.
5- تفسير ابن كثير: 7/ 479.
6- ظريق الهجرتين وباب السعادتين: 407
7- سنن أبي داود: باب فِي النَّهْىِ عَنِ السَّعْيِ فِي الْفِتْنَةِ، (4265). قيل: معنى هذه الكَلمة التَّلَهُّف. وقد توضَع مَوْضِعَ الإعْجاب بالشيء (النهاية في غريب الأثر): (5/ 307).
8- البيت: القبر.
9- الوصيف: الخادم
10- سنن أبي داود: باب فِي النَّهْيِ عَنِ السَّعْيِ فِي الْفِتْنَةِ، (4263).
11- معالم السنن: 4/322
12- صحيح مسلم: عرض مقعد الميت، (7392).
13- سير الأعلام النبلاء: 4/ 601.
----------
أضف تعليقك