بقلم: عامر شماخ
يحزننى أن أرى معارك كلامية بين الإخوة والأحباب على وسائل التواصل الاجتماعي، وألعن فى نفسي من تسبب فى هذه الوقيعة وحرّش بين المؤمنين. وألقى باللوم كذلك على الإخوة الذين وقعوا فى فخ الشيطان، وأساءوا الظن بإخوانهم، فتفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم الحق..
قد لا تمر ساعة إلا وترى أخًا اشتبك مع أخيه تعقيبًا على «بوست» نشره؛ فيبدى له العداوة -وربما كان حبيبه بالأمس- مسفهًا رأيه، ساخرًا من قوله، مشككًا فيما كتب، ولا يخلو الأمر -عادة- من التخوين، والسب والشتم، بل التهديد وتحريض الخصوم عليه.
ولو سألت أحد الطرفين عن فضيلة الأخوة ورذيلة الحقد والغل لكرّها عليك كرًّا، ولزكّى نفسه وادّعى أنه على الحق وخصمه على الضلال المبين -وهذا نفسه من عمل الشيطان وتلبيس إبليس، وقد فعلها الملعون مع أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لذا حفل الكتاب والسنة بالنصوص المحذرة من الوقوع فى هذا الشرَكِ، وتصفية القلب وتنقيته من كل ما يفسده ويطفئ نوره.
ومعلوم أن التنازع داخل الصف يورث الفشل، والفشل يورث الهزائم والانكسارات وغلبة الأعداء، ولكمْ وَهَنَ المسلمون وولوا مدبرين لمشاحنة وقعت بينهم، أو بسبب الإعجاب بالنفس والزهو بالرأي. بل رأينا إذ اختلف بعض الإخوة: فجرًا فى الخصومة، وهتكًا لستر الطرف الآخر، وانتهاكًا للعورات، وتصيدًا للزلات، وتشويهًا لصورة الآخر والافتراء عليه؛ وهذا ينبئ عن سواد فى القلب وغل ملأ أركانه فلم يبق فيه موضع لعفو أو رحمة.
ونقولها بشكل واضح: إن الانشغال فى الفترة الماضية بأعمال السياسة والمجهود العام، والانشغال عن الله -هما ما أوجدا هذه الظاهرة، التى كلما مر يوم من دون الانتباه لسببها كبرت واستفحلت حتى صار الفريق فريقين، والجماعة جماعتين، والأخوان المتحابان عدوين لدودين. وهذا لا يعنى الانصراف عن السياسة والعمل العام، إنما يعنى التوسط والاعتدال فى تعاطيهما، وأن يُحمل الأفراد فى المقابل على مداومة الطاعة والتعلق بالله، والتمسك بكتابه وما يعنيه هذا الأمر من التخلق بأخلاقه، والعيش فى ظلاله، والمحافظة على ورده، والتماس شفاء الصدر من معينه الرائق، وهو أفضل الذكر، وأشرف العبادات، ولا أظن صاحبه يقع فيما يقع فيه الآخرون من تجريح المسلمين وسوء الظن بهم.
إننا نذكّر بأن هذه الأعمال محبطة، مردودة على أصحابها؛ لفساد قلوبهم، وافترائهم على المسلمين؛ فإن سلامة الصدر هى أدنى مراتب الحب فى الله، والقلب السليم سبب رئيس لدخول الجنة كما أخبر الله عن إبراهيم الخليل: 0إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الصافات: 84]. وفى الدنيا كانت تلك القلوب الطاهرة المحبة عنوانًا لمجتمع الصحابة الأبرار، ذلك الجيل الفريد؛ إذ صور الله تعالى نفوسهم الراضية المرضية بقوله: (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. والَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) [الحشر: 9]، إنها الصورة الإيمانية المثالية، والمجتمع المسلم الحضاري الراقي، والجماعة التى لا تعرف سوى لغة الحب والمودة والرضا والمرحمة.. وإن الرجل الذي بشره النبى -صلى الله عليه وسلم- بالجنة بقوله: «يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة».. كانت أعماله يسيرة وطاعاته ليست كما طاعات الصحابة بها كثير صلاة وصيام وصدقة، إنما كان سليم الصدر كما قال –رضى الله عنه-: «… غير أنى لا أبيت وفى قلبى غل على أحد من المسلمين».
وفى المقابل فإن بني يعقوب -المفترض أنهم صالحون- لحسد فى قلوبهم على أخيهم أوردوا أنفسهم موارد الهلكة، بل وصل الأمر إلى حد الترصد لقتل يوسف -عليه السلام- ظنًا منهم -وقد ركب الشيطان رءوسهم- أن ذلك يحقق أمنيتهم بتخلصهم من غريمهم)اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ) [يوسف: 9]
إنه لن يكون نصر إلا بتوحد الصف، وإصلاح ذات البين، فالمسلم للمسلم كاليدين تغسل إحداهما الأخرى، وهو مرآته التى يرى بها حسناته وسيئاته، وما أحرز المعصوم -صلى الله عليه وسلم- نصرًا على عدو إلا بعدما ربّى جماعته على الإيمان وألف بين قلوب أفرادها (وَإن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ، وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [الأنفال: 62، 63]، وقد وصف الحال التي يجب أن يكون عليها المسلمون ليستحقوا النصر والعلو فى الأرض بقوله: «مثل المؤمنين فى توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى».
أضف تعليقك