بقلم ..عادل سليمان
تحتفي الأمم الحية بذكرى الحروب الكبرى التى خاضتها، ومثلت مراحل فارقة فى تاريخها، وتتّخذ من تلك الذكرى مناسبةً لبث الثقة والأمل في وجدان الأجيال المتعاقبة، ولتأكيد أن الأمة قادرةٌ على تحقيق أهدافها الوطنية، متى توفرت لها الإرادة، وحسن التخطيط والإدارة. ولا ينبغي أن يقتصر الاحتفاء بذكرى تلك الحروب على الاحتفالات البروتوكولية، بل يجب أن يتضمّن استعادة الدروس المستفادة من خلال تقييم موضوعي لمجريات الحرب، وما آلت إليه من نتائج، خصوصا إذا كانت تلك الحرب قد جرت في سياق صراع وجودي لا يزال قائما، وهو الصراع العربي الإسرائيلي.
يأتي هذا الحديث، ونحن على أبواب الذكرى الخامسة والأربعين لحرب أكتوبر 1973، والتي أطلق عليها بعضهم مصطلح الجولة العربية الإسرائيلية الرابعة، وعرّفها أنور السادات بأنها آخر الحروب، باعتبار أنها كانت من المفترض أن تؤدّي إلى السلام الشامل والعادل، والذي لم يتحقق بطبيعة الحال، بينما أرادها العدو الإسرائيلي، ومعه الحليف الإستراتيجى الأميركي، آخر الحروب التى يمكن أن تهدّد المشروع الصهيوني فى فلسطين والمنطقة.
على مدى الأعوام الخمسة والأربعين التي انقضت منذ حرب أكتوبر، توارت فكرة أن تلك الحرب كانت واحدةً من جولات الصراع، فهي لم تحسم ذلك الصراع، فكان لا بد من الإعداد لجولاتٍ تالية، وهو ما لم يحدث، واستراح العرب لفكرة أنها كانت آخر الحروب، ووقعوا في فخٍّ أطلقت عليه أميركا اسما برّاقا هو "عملية السلام"، ووضع العرب حرب أكتوبر في إطار تاريخي، وكأنها واحدة من تراثهم الحربي القديم. ثم توارى ذلك كله أخيراً، ليسود الحديث عن "السلام الدافئ" مع الجار الذي يقف معنا فى خندقٍ واحدٍ ضد العدو الجديد المشترك (إيران). وهو بالضبط ما كان يسعى إليه المخطط الصهيوأميركي. وهذا لم يتحقق تلقائيا، ولكن من خلال ترويج مجموعة من الأفكار الخاطئة بشأن تلك الحرب، والتركيز عليها بطرق ووسائل متعدّدة، وبإصرار، على مدى كل تلك السنوات، حتى تحولت إلى أخطاء شائعة يردّدها عربٌ كثيرون، من دون وعي، وكأنها حقائق. وبالتالي، يتم الاستسلام إلى فكرة أنه لا جدوى من الحرب، وعلى العرب والفلسطينيين قبول بما يُعرض عليهم، وهي الفلسفة التي انطلقت على أساسها أطروحة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، المعروفة باسم "صفقة القرن".
أول الأخطاء الشائعة التي روّجها العدو الإسرائيلي أن حرب أكتوبر كانت عربية شاملة، خاضها العرب، لكنهم لم يتمكّنوا من مواصلتها إلى النهاية، فلا مجال لتكرار تلك التجربة. والحقيقة أن الحرب انطلقت باتفاق وتنسيق على المستويين، السياسي والإستراتيجي، بين مصر وسورية فقط، لتبدأ الحرب على الجبهتين في وقت واحد، لكنها على المستوى الإستراتيجي العسكري لم تكن حرباً واحدة، بل حربين مختلفتين دارت كل منهما على جبهة مختلفة، من حيث الطبيعة الجغرافية، والطبوغرافية، والموانع والتجهيزات العسكرية الميدانية، وأيضاً وسائل القتال وأساليبه التي تطلبها مسرح العمليات في كل جبهة. وهذا لا يُقلل، بأي حال، من قيمة الاتفاق والتوافق المصري السوري، والذي أضفى الطابع العربي على تلك الحرب، على المستوى السياسي، ولا يقلل أيضاً من المساهمات العربية اللاحقة فى تلك الحرب، وهو ما انعكس إيجابياً على الشعوب العربية، ولكنها لم تكن حربا عربية شاملة.
الخطأ الشائع الأكثر خطورة هو ترويج أن حرب أكتوبر لم تكن حرب تحرير، لكنها كانت حرب تحريك. ويُفرغ هذا القول تلك الحرب من مضمونها القتالي، ويظلم كثيراً جيلاً من العسكريين خاضوا المعركة، وأثبتوا قدراتٍ فائقة على كل المستويات.
بدايةً، لابد من ضبط المصطلحات، فحروب التحرير، في المصطلحات العسكرية، هي المعارك التى تديرها حركات التحرير والمقاومة غير النظامية عادة ضد القوات النظامية المحتلة، وتجري في شكل حروب عصابات، وحروبٍ لا تناسقية، في محيط مكاني، وزماني غير محدود. وأقرب الأشكال لذلك حرب التحرير الجزائرية، وحرب التحرير الڤيتنامية، والأمثلة كثيرة ومتنوعة. أما مصطلح حرب التحريك فهو إعلامي، لا علاقة له بأدبيات علم الحرب، وتم استخدامه للتقليل من شأن حرب أكتوبر على المستوى العسكري، وتصويرها كأنها أقرب إلى المظاهرة العسكرية من الحرب، وهو أمر بعيد عن الحقيقة كل البعد. والحقيقة أن حرب أكتوبر، على المستوى العسكري، على الجبهة المصرية تحديدا، كانت نظامية، تقليدية، دارت بين جيوش محترفة، بأفرعها الرئيسية المتعارف عليها، البرية والبحرية والجوية والدفاع الجوي، على مسرح عمليات بري وبحري وجوي محدّد، والأهم أنها كانت ذات أهداف إستراتيچية عسكرية محدّدة، تم على أساسها تحديد المهام القتالية للتشكيلات التعبوية (الجيوش الميدانية والأفرع الرئيسية)، والتشكيلات التكتيكية (الفرق المشاة، والميكانيكية، والمدرّعة)، وتم ذلك كله في إطار القدرات والإمكانات المتاحة للقوات المسلحة المصرية، وطبيعة مسرح العمليات، وقدرات العدو وإمكاناته، وطبيعة دفاعاته وتحصيناته، مع الوضع فى الاعتبار القدرات الشاملة للدولة، وللعدو. وفي ضوء ذلك كله، كان الهدف واضحاً، ومحدّداً، وهو إنهاء حالة اللاسلم واللاحرب، والتي لم يعد في الوسع استمرارها، واقتحام مانع قناة السويس، وتحصينات خط بارليف شرق القناة، وتدمير التجميعات الرئيسية للعدو شرق القناة في سيناء وهزيمتها، وبعمق يصل إلى 15 كلم شرقاً، والتمسّك بالأرض والتعزيز على الخطوط التي يتم الوصول إليها، والاستعداد لتطويرأعمال القتال شرقاً.. وكان ذلك مضمون الهدف والمهام العسكرية التي تم تحديدها للقوات المقاتلة.
انطلقت الحرب على ذلك الأساس في الثانية وخمس دقائق ظهر يوم السادس من أكتوبر 1973، وخاضت فرق المشاة المصرية الخمس الشهيرة والعظيمة، على حد تعبير المحللين العسكريين الدوليين، أشرس معارك المواجهة التي توحد فيها المقاتل مع الأرض والسلاح والهدف.. وعندما توقف القتال، وانقشع غبار المعارك عن مسرح العمليات، وتوقفت آلة الحرب عن الدوران، بعد تقرير وقف إطلاق النار، وفض الاشتباك بين القوات المتقاتلة، وإنشاء منطقة عازلة بينها، كانت أوضاع القوات المصرية، قوات فرق المشاة الخمس الشهيرة والعظيمة المشار إليها، شرق القناة، متمسّكة بمواقعها على امتداد المواجهة من البحر المتوسط شمالا إلى خليج السويس جنوبا، وبعمق ما بين 15- 17 كلم. وبطبيعة الحال، كانت قد دارت معارك كَرّ وفرّ عنيفة، شرق القناة وغربها، وسقط شهداء، ووقعت خسائر، وحدثت نجاحاتٌ كثيرة، وكبوات أيضاً. ولكن التقييم الموضوعي لنتائج المعركة العسكرية يخضع لأوضاع قوات الجانبين النهائية على الأرض، وليس للنتائج السياسية للحرب.
لم تكن حرب أكتوبر، عسكرياً، حرب تحرير بالمفهوم المتعارف عليه، ولم تكن حرب تحريك بالمفهوم المخادع. كانت حرباً تقليدية حقيقية بين جيوش نظامية، حقق فيها الجيش المصري انتصاراً عسكريا، تمثل في تحقيق المهام التي كانت محدّدة لتشكيلاته، واستعاد كرامة العسكرية المصرية، والكرامة المصرية والعربية عامة. والأهم تأكيد أن الأمة تواجه عدوّاً يمكن هزيمته، وهي الرسالة التي ظل العدو يعمل على محوها طوال الأعوام الخمسة والأربعين الماضية، وكاد أن ينجح في ذلك للأسف.
علينا، في ذكرى حرب أكتوبر، استعادة دروس المعارك، والمواجهات مع العدو، والانتصارات الحقيقية، وتصحيح الأخطاء الشائعة، فهو ليس العدو الذي لا يُقهر، ونحن لسنا الأمة التي تستحق الهوان، وهو ما يجب أن تدركه الأجيال.
أضف تعليقك