بقلم قطب العربي
هل تعلم عزيزي القارئ أن النظام المصري أعدم فعلا خلال ثلاث سنوات؛ 36 معارضا سياسيا، أي بواقع معارض كل شهر؟ وهل تعلم أن هناك عددا مماثلا ينتظر تنفيذ الحكم في أي لحظة بعد استنفاذ كل درجات التقاضي؟ وهل تعلم أن هناك 1300 حكم بالإعدام صدرت من محاكم الجنايات وتنتظر البت النهائي فيها أمام محكمة النقض؟ وهل تعلم أن بعض من نُفذ فيهم حكم الإعدام كانوا بحوزة الأجهزة الأمنية قبل وقوع الجرائم التي اتهموا بتنفيذها وحوكموا بسببها؟ بل هل تعلم أن بعض أحكام الإعدام الجماعية ضمت أسماء موتى وأطفال وحتى مسيحيين، ولأن وسائل الإعلام المناهضة للنظام فضحت هذه الأحكام فقد ألغتها محكمة النقض لدفن الفضيحة؟!!
يتعامل النظام المصري مع معارضيه باعتبارهم خطرا على الحياة، والحقيقة أنهم فقط خطر عليه؛ لأنهم هم الذين تصدوا - ولا يزالون - لحكمه، وهم الذين يصرون، رغم قسوة القمع الذي يتعرضون له، على المضي في طريقهم لإنقاذ مصر من هذا الكابوس المرعب. ويريد النظام من خلال إصدار هذه الأحكام، ومن ثم تنفيذ بعضها بث موجة جديدة من الصدمة والرعب في نفوس المصريين بعد صدمة رابعة والنهضة؛ حتى يستكينوا ويقبلوا الهوان الذي يعيشون فيه، وحتى يتجنبوا أي تواصل مع القوى المعارضة. وكلما فشلت رسالة النظام في تحقيق هدفها، فإنه يقدم على موجة جديدة لعلها تحقق هدفه.
آخر هذه الأحكام العبثية هو الحكم بإعدام 75 قيادي إسلامي معارض في قضية فض اعتصام رابعة، وهو الحكم الذي استنفر الكثيرين داخل مصر وخارجها للتنديد به، وتحذير النظام من مغبة تنفيذه. وقد شارك في هذه التحذيرات الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وبعض الدول الأخرى وبعض المنظمات الحقوقية الدولية، علما أن الحكم هو أول درجة ولا يزال أمامه مرحلة النقض.
إلى جانب رغبة النظام في تجديد وتصعيد سياسة الصدمة والرعب التي اتبعها من قبل في فض الاعتصامات ومواجهة المظاهرات الكبرى، فإنه يستهدف أيضا كسر إرادة القوى المناهضة له، وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين والقوى الإسلامية الأخرى المتحالفة معها، ويستهدف دفع المحكومين وأسرهم للضغط على قيادة الجماعة للاستسلام. فالنظام لا يقبل تسوية سياسية عادلة تحفظ لكل ذي حق حقه، فهو يعلم أنه سيكون ثمنا لأي تسوية، بل يريد إذعانا واستسلاما تاما وإقرارا بالواقع المرير، وتعهدا بعدم مقاومته، وقبولا للعيشة المهينة المفروضة عليه.
رسالة النظام تخطئ طريقها في كل مرة، على الأقل في ما يخص القوى المناهضة له التي لا تهزها مثل هذه الأحكام، وكيف تهتز وهي ترى من صدرت بحقهم الأحكام في منتهى الصمود والشموخ؟ بل يزأر متحدثهم "وأتموا الثورة لله". هؤلاء القادة ليسو من جنس المعارضات التي تخشى على حياتها حين ترى إرادتها تغتصب، وكرامتها تنتهك، ووطنها يباع عيانا بيانا، وشعبها يهان ويسام سوء العذاب.. هؤلاء القادة ممن تربوا على أن الموت في سبيل الله أسمى أمانيهم، ولذلك فإن أبدانهم لا تقشعر لارتداء "بدلة الإعدام" ولا ترقص لخلعها. فكم ارتدوها وكم خلعوها من قبل، وهم يعلمون أن أنفاسهم معدودة، وأعمارهم مكتوبة، لا يستأخرون عنها ساعة ولا يستقدمون، وهي القناعة ذاتها لدى أسرهم التي تربت على المبادئ ذاتها، وتشربت المنهاج ذاته، كما أنها هي القناعة ذاتها التي منعت عشرات الآلاف من السجناء الذين يعانون الويلات في محابسهم من التوقيع على عرائض توبة واسترحام تنقلهم من جحيم السجون إلى رحابة البيوت.
لم يكن نظام السيسي يتصور أن مناوئيه سيستطيعون الصمود في مواجهته طيلة هذه السنوات الخمس، وقد جرب في مواجهتهم كل وسائل القمع من حبس وتعذيب، وقتل وتنكيل طال حتى الأسر البريئة، لكنه فوجئ بحالة صمود غير مسبوقة في مصر، بل ربما في كل الدول التي شهدت انقلابات عسكرية من قبل، ففي تجارب الانقلابات الأخرى اضطرت القوى المقاومة للاعتراف بالنظام، ثم عاودت النضال ضده عبر المسارات السياسية المتاحة، ولكن في الحالة المصرية لم تعترف القوى المقاومة بنظام السيسي حتى الآن، قد يقول قائل إن أشكال المقاومة والمظاهرات تراجعت كثيرا إلى حد التلاشي، باستثناء بعض المظاهرات الأسبوعية المحدودة التي تنطلق لوقت قصير في شوارع داخلية بعيدة عن عيون الأجهزة الأمنية. وهذا صحيح، ولكن استمرار هذا العدد القليل في المظاهرات الأسبوعية التي لم تنقطع على مدى السنوات الخمس الماضية؛ يحفظ الحد الأدنى من حرارة الحالة الثورية المقاومة، ويمثل رسالة قوية للنظام باستمرار المقاومة، كما يمثل رسالة قوية للعالم بأن مصر لا تزال تعيش في حالة اضطراب سياسي، ما يحرم النظام من النجاح في تسويق مشروعاته الوهمية دوليا، وهو ما ظهر في انسحاب العديد من الشركات من السوق المصري والتراجع الحاد للسياح الأجانب.
لم يكتف النظام بما أصدره من أحكام إعدام، بل عمد إلى التصعيد مجددا بمصادرة أموال المعارضين المجمدة أصلا بقرارات عسكرية سابقة. فقد سن النظام قانونا جديدا يبيح له مصادرة هذه الأموال، رغم أن ذلك يخالف الدستور الذي يمنع التأميم والمصادرات، ويحمي المال الخاص، وهذه المصادرات (التأميم) للأموال طالت في دفعتها الأولى 1580 معارضا مصريا، وستطبق على العديد من الحالات الأخرى التي تعرضت من قبل لتجميد الأموال والممتلكات، فالنظام يستحل أموال هؤلاء المعارضين، متجاهلا أن ميزانية الدولة ستعيد دفع هذه الأموال مضاعفة بعد ذلك لأصحابها عقب رحيله.
يسعى النظام بهذه الأحكام والمصادرات إلى جمع أوراق ضغط جديدة ضد مناوئيه لدفعهم للاستسلام، لكن رسالته وصلت كالعاة إلى العنوان الخاطئ، فمثل هذا القمع لن يحقق له استقرارا أو أمنا، وليس أمامه سوى الرحيل.
أضف تعليقك