• الصلاة القادمة

    الظهر 11:01

 
news Image
منذ ثانية واحدة

 رامي إبراهيم البنا

بعيدًا عن الذاتية المنغِّصة التي كان يتّسم بها المخرج يوسف شاهين، فيظل ذلك السؤال يتردد لكثير مما لا يعرفون الإسكندرية، إسكندرية ليه؟!، لماذا يتعصّب كثيرٌ من الناس ممن هم إسكندريون وغير إسكندريين للإسكندرية، أحب هنا أن أستهل مقالتي بكلمة العلامة علي بك مبارك في كتابه المسمَّى بالخطط التوفيقية عن الإسكندرية؛ يقول في كتابه:

"مدينة إسكندرية لم يوجد في الأقطار المصرية من المدن الشهيرة التي حفظ المؤرخون حوادثها وقيدوها في كتبهم مثل مدينة إسكندرية، وإن لم يبق من آثارها القديمة إلا القليل، ولعل سبب حفظهم لحوادثها وإطنابهم في آثارها أهمية موقعها عند من حكموا الديار المصرية وغيرهم بالنسبة للتجارة التي بلغت فيها درجة علائقها الغاية عند جميع الأمم المتفرقة بسواحل البحر الأبيض، فبتلك الواسطة صارت تخت المملكة متسعة الأطراف، قد مدّت شجرة العلوم فيها أغصانها واتّسعت دائرة المعلومات البشرية في مدارسها".

لن أطيل في ذكر تاريخ الإسكندرية وما تحتله من مكانة في التاريخ بشكل عام، وما حكوه المؤرخون عن بنائها وأهلها، لكنني أستطيع أن أحيل القارئ على المؤرخ المصري الهوى والنشأة والوطن تقي الدين المقريزي (764 هـ ـ 845 هـ) فقد ذكر فصلا صغيرًا بعنوان: "ذكر طرَفٍ مما قيل في الإسكندرية"، ونقل تحته كثيرًا من النقول عن الصالحين والشعراء والأدباء وبالغ في ذلك، وقد فعل مثل المقريزي كثير من المؤرخين وحكوا كثيرا من الغرائب والعجائب، خاصة عن منارة الإسكندرية التي بُنيت في عهد بطليموس الثاني سنة 280 ق.م، وكيف كانت وكيف تهدّمت إلى آخر ذلك، مما يُشعِر أي شخص إسكندري بفخر أنه ينتمي إلى هذه المدينة.

الفخر أن تكون إسكندريًّا، هذا الفخر النابع من ذاك البحر الأزرق، الذي يحتضن هذه المدينة، وذكريات الطفولة التي عشتها في الغوص في هذا البحر، وشوارعها وحواريها، والذي سرعان ما يرتطم بالواقع المرير، لكن لا بأس، دعني أسرح بخيالك قليلا وأسألك سؤالا: ماذا لو كانت الإسكندرية في أوروبا؟

زرتُ كثيرًا من المدن الأوروبية المطلة على البحر، وقد جعل الله لي نصيبًا أن أعيش في مدينة إستانبول التي كانت تذكّرني بالإسكندرية، فمدينة إستانبول يتنازعها بحران البحر الأسود وبحر مرمرة، ويصلح هذا التنازع مضيق البوسفور، فيكفيك من رائحة إستانبول أن تركب السفينة من الجانب الأوروبي إلى الجانب الأسيوي والعكس، أو تذهب إلى الجزر الصغيرة على المركب وأنت تداعب طيور النورس الفضولية التي قد تخطف منك ما بيدك بجرأة وصفاقة، وقد كان من حظي أيضا أني سكنت في منطقة قريبة من الخليج في السلطان أيوب، فكنت أركب السفينة فتبحر من السلطان أيوب في الخليج العذب إلى البوسفور، قدر 45 دقيقة في الماء، بسعر زهيد عادي، فهي مواصلة مثلها مثل الحافلة والترام والمترو هناك، وكنت دائما أستغلّ ذلك أحسن استغلال، وهواي السكندري هو الذي كان يتحكّم بي؛ فأتحاشى كل المواصلات كي أصل إلى السفينة، فإذا وصلت إلى السفينة ركبتها وتظاهرت أن لدي عملا ضروريا لذا يلزم علي الركوب والوصول إلى المكان المرجو.

كان دائما هناك سؤال يلتصق بذهني، لماذا لا يكون عندنا في مدينة الإسكندرية مثل هذا؟!، هل يُعقل أنني من أهل الإسكندرية وصرت شابا ولم أركب مركبا سوى مرة واحدة، أذكر في تلك المرة أن كثيرًا من أصدقائي خوّفني، وقالوا لي: احذرْ فهناك دَوّار البحر قد يأتيك ولا تستطيع أن تفعل شيئا، وكان القارب في هذه المرة التي ركبت فيها مع الأصدقاء قاربًا صغيرًا متهالكا قد حمّله صاحبه من الأشخاص ما لا يحتمل وذهبنا فيها إلى جزيرة نيلسون، ورغم هذا التهالك الذي رأيته إلا أنني كنت مستمتعا جدًّا بهذا، وهذه الجزيرة كنت لا أعرف عنها شيئا في ذلك الوقت، هل أنت كإسكندراني تعرف شيئًا عن جزيرة نيلسون وعن تاريخها؟!

في مدينة توبنغن ركبت مع عائلة شتارك الألمانية قاربًا في ذلك النهر هناك، كان هذا القارب صنعه صديقي أخيم بنفسه، واستغرق في صنعه شهورًا وشهورًا، نزلنا النهر وصرنا نجدّف سويًّا، وأثناء إبحارنا في هذا النهر كانت السيدة تحكي لي بالتفاصيل تواريخ الأماكن والأعلام، وتاريخ هذه الترعة الصغيرة أو النهر كما يسمونه، والبيوت المحيطة به يمينا ويسارا، فتذكر لي المفكرين والفلاسفة والكنائس الموجودة القديمة، فهناك أحد البيوت التي جُنّ فيها أحد الفلاسفة الألمان وسكنها حتى مات، وهناك أنواع كثيرة من الشجر، أما الطيور فيُمنع منعًا باتًّا أن يطعمها أحد، فالمتكفِّل برعايتها هناك هي البلدية، بلدية مدينة توبنغن الألمانية، تذكرت حينها ترعة المحمودية في مدينة الإسكندرية، وقلت في نفسي: كم نحتقر ما لدينا في بلادنا، هذه حقيقة بيّنة... حتى كلمة تُرعة لا تأتي في كلامنا إلا وهي موضوعة وضع الاحتقار، أذكّرك بمقولة بسيطة نقولها: "ليه هوه أنا جاي من الترعة؟!"

ترعة المحمودية هذه أمر بحفرها مؤسس مصر الحديثة محمد علي باشا وقد استغرق حفرها ما يقرب من ثلاث سنوات، وسرْدُ الجبرتي يبين مدى اهتمام محمد علي بهذه الترعة التي كانت تسمى ترعة الأشرفية، فانظر ذلك في حوادث سنة 1232 وما بعدها، وقد كان افتتاحها في ربيع الثاني سنة 1235 يناير سنة 1820م، وحضر هذا الافتتاح محمد علي بصحبة ابنه إبراهيم، وقد قاسى الفلاحون المرار في حفر هذه الترعة، وسأنقل لك إشارة من إشارات الجبرتي التي تُبيِّن لك كيف كانت هذه المأساة يقول:

"وكان الباشا –يقصد محمد علي- سافر إلى جهة الاسكندرية بسبب ترعة الاشرفية وأمر حكام الجهات بالارياف بجمع الفلاحين للعمل فأخذوا في جمعهم فكانوا يربطونهم قطارات بالحبال وينزلون بهم المراكب وتعطلوا عن زرع الدراوي الذي هو قوتهم وقاسوا شدة بعد رجوعهم من المرة الأولى بعد ما قاسوا ما قاسوه ومات الكثير منهم من البرد والتعب وكل من سقط اهالوا عليه، من تراب الحفر ولو فيه الروح ولما رجعوا إلى بلادهم للحصيدة طولبوا بالمال وزيد عليهم عن كل فدان حمل بعير من التبن وكيله قمع! وكيلة فول وأخذ ما يبيعونه من الغلة بالثمن الدون والكيل الوافر فما هم إلا والطلب للعود إلى الشغل في الترعة ونزح المياه التي لا ينقطع نبعها من الأرض وهي في غاية الملوحة والمرة الأولى كانت في شدة البرد وهذه المرة في شدة الحر وقلة المياه العذبة فينقلونها بالروايا على الجمال مع بعد المسافة وتأخر ري الاسكندرية".

هذه هي المعاناة التي صورها لنا الجبرتي، وهذه تذكرنا بمعاناة أخرى بعدها بعقود قريبة، وقد استُعمل الفلاحون في قناة السويس، ومات في حفرها الآلاف، وقد ذكر لنا الجبرتي موت كثير من الفلاحين في حفر المحمودية، وإذا أردت أن تعرف المزيد عن تلك الترعة فاقرأ ما كتبه العلامة مؤرخ مصر الحديثة عبد الرحمن الرافعي في كتابه عصر محمد علي ص 488-491، واقرأ كذلك للأمير السكندري الجغرافي الأثري الرائع عمر طوسون كتابه تاريخ خليج الإسكندرية، وقد ذكر فيه كثيرًا من الوثائق والمراسلات المتعلقة بهذه الترعة العظيمة.

على أي حال، سأترك التاريخ جانبًا مرة أخرى، وقد اضطررت لهذا كي أبين لك عِظم ما عندنا، والسؤال مرة أخرى ماذا لو كانت ترعة المحمودية هذه في بلد أوروبي؟!، لن أجيب على هذا السؤال طلبًا للاختصار، لكنني سأقتبس إفادات المؤرخ عبد الرحمن الرافعي عما كانت عليه تلك الترعة قديما، فهو يصف هذه الترعة وصفًا أدبيًّا بليغًا "فترعة المحمودية تنساب بمنظرها البديع ومائها الرقراق بين بلدان عامرة، وحدائق غناء... طيور تحلق زرافات في السماء أو تغرد فوق الأغصان...تجد على امتداد البصر مناظر تملأ النفس بهجة وسرورًا، وكلما سرت في الطريق رأيته مكتظًّا بالمركبات والدواب تنقل الناس من مختلف البلاد، وتحمل حاصلاتهم ومتاجرهم، وترى الترعة ذاتها لا ينقطع فيها عبور المراكب والصنادل والبواخر حاملة المتاجر ذاهبة وآتية بين الإسكندرية ودمنهور".

هكذا يستمر الرافعي في وصف رائع رائق لترعة المحمودية التي لو لم تعرفها ورأيتها بنفسك وعشت بجوارها، لما صدّقتَ هذا الكلام على الإطلاق، فأين ترعة المحمودية الآن؟!، وقد عمَّها القاذورات وملأها الإهمال يمينا ويسارا ومن فوقها ومن تحتها، لو كانت هذه الترعة في أوروبا لعمّها الجمال، فالماء مقرون بالجمال، لعمتها الخضرة والراحة، لو كانت في أوروبا لأتى إليها الناس خصيصا من خارج البلاد كي يبحروا بقواربهم، قل لي أنت: ما الجاذب في مدينة الإسكندرية الآن؟!، البحر؟! حتى البحر الذي فيه ذكرياتنا تملّكوه وقبّحوا بنفوسهم القبيحة، ماذا بقي من الإسكندرية؟! ولا عزاء.

  • نقلا عن مدونات الجزيرة

أضف تعليقك