صدمتنا مشاهد بؤس طلاب المحروسة ومدارسها مع بدء الموسم التعليمى الجديد، وهى مشاهد تدل على أننا نعيش فى «شبه دولة» أو فى «وطن ضائع»، واللفظان من مأثورات المضطرب الذى صدق فيهما وهو الكذوب.
رأينا عشرات التلاميذ الصغار «محشورين» -كأنهم فى مظاهرة- فى حجرة تبدو قذرة، وكثير منهم افترش الأرض، ورأينا حيوانات تتجول فى بعض المدارس، ورأينا قمامة بالأطنان ملقاة فى مدخل أحد المجمعات التعليمية، ورأينا دورات مياه غير آدمية.. إلخ تلك الصور التى تغير دماء الحر وتنعى بلدًا كان يُضرب به المثل فى اهتمامه بالتعليم وتخريجه أجيالاً علّموا أبناء العرب من المحيط إلى الخليج..
وهذا الانحدار بدأ مع استيلاء العسكر على السلطة منذ عام 1952، وبلغ ذروته عقب انقلابهم الثانى 2013، وها هى النتيجة: خروج من التصنيف العالمى للتعليم؛ ما يعنى أننا صرنا على رأس الدول المتخلفة، وواقع تعليمى يضر أكثر مما ينفع، ثم تأثير هذا وذاك على المجتمع، والفرق هائل بين مجتمع نال تعليمًا سليمًا وآخر حُرم منه أو أخذه مشوهًا..
العسكر لا يريدون تعليمًا، ولا تقدمًا إنما يريدونها جاهلية مظلمة؛ فهم أعداء العلم؛ لأنه يُخرج لهم شبابًا يطالب بحقه، ويعارض أنظمتهم التابعة، وفوق ذلك فإنه يعيِّرهم بغبائهم، وينكأ جروحهم، أو تستطيع أن تقول إنهم لا يعنيهم هذا الأمر من الأساس؛ إذ فاقد الشىء لا يعطيه، كالجاهل تحدثه عن معامل الكمبيوتر فيظنها معامل تحاليل، وكالذى تكلم يومًا عن «الصواريخ الباليستية» مؤكـدًا أنـهـا «بـلاسـتـيـكية»؛ فـإنـهـم -بالطبع- لا يدركون فوائد التعليم ومزاياه ونتائجه على الفرد والمجتمع. وأخيرًا فإنهم إن لم يكونوا هذه ولا تلك فإنهم فاشلون، عاجزون، لا تفى ميزانيتهم لدعم التعليم كما الصحة والنقل والكهرباء وغيرها؛ فهم لذلك يتركونها على عشوائيتها وفوضاها. إنهم ينفقون ببذخ فى جوانب أخرى؛ ينفقون على أمنهم الشخصى وترفهم وتأمين بقائهم فى السلطة، حتى قيل إن تكلفة سور العاصمة الإدارية -وهى قريتهم المحصنة- تكفى لبناء 120 مدرسة، لو وجدت ما رأينا تلك المشاهد البائسة.
إن ما نراه الآن -وما خفى كان أعظم- مقصود ومخطط له، فالذين باعوا الغاز والماء والأرض ودمروا الاقتصاد، يسعون سعيًا لتدمير التعليم والصحة وإلا فليُجبنى أحدهم عما يأتى: هناك تعليم ثانوى ترصدون له ميزانية كبيرة، أين طلاب هذا القطاع؟ لماذا ينقطعون عن الدراسة ولا يسأل عنهم أحد؟ وما سر الإبقاء على الأبنية والمناهج والمؤسسات والفريق التعليمى والإدارى إذا كان الطلاب فى منازلهم؟ مع العلم أن هذا الواقع انتقل إلى قطاع الإعدادى ولا أحد يطرح القضية للمناقشة!!
لقد خلق هذا الوضع الحرام تعليمًا موازيًا تمثل فى الدروس الخصوصية التى صارت تمثل عبئًا على الأسرة المصرية، فما ينفق عليها يعادل ما ينفق على الطعام والشراب والكساء. وتلك الجريمة تشارك فيها الدولة والمدرسون، والأمر صار مألوفًا حتى انتقل الآباء بأبنائهم إلى المدارس الخاصة؛ من أجل تعليمهم تعليمًا جيدًا بعيدًا عن الوباء الحكومى، لكنهم لم يسلموا من أسعار تلك المدارس وجشع أصحابها وتواطؤ الدولة معهم؛ فهم بين نارين وقد وصلوا إلى نتيجة لخصها المضطرب بقوله «كده خربانة وكده خربانة».
وحتى لو وصلنا إلى جودة مظهر التعليم؛ فَوَجَدَ الطلاب مقاعد يجلسون عليها، وانتظمت المناهج وانضبطت الأمــور الإداريــة، تـبـقى الحـرية الـتى لا تنفصل عن التعليم، وانعدامها يعنى تخريج قارئين ليسوا مفكرين أو مبدعين، فلا بد من تحرير المناهج فلا تكون خاضعة لتوجهات السياسة، بل يجب أن تعبر عن فكر الأمة ودينها، وأن يسمح للطلاب بممارسة أدوارهم المتعارف عليها عالميًا، لا كبتهم وحبسهم كما يجرى الآن، وأن تحرر مؤسسة التعليم من المنافقين الذين يتم تعيينهم من جانب العسكر فهم يقدمون مصالح هذه الأنظمة على مصالح البلاد والعباد.
أضف تعليقك