من السياسة إلى الرياضة، تندلع حالةٌ عارمة من الهذيان القومي، تتطوّر إلى زلزال، يتبعه تسونامي يغرق كل معنى، ويدمّر كل قيمة، ويعدم كل منطق، أو محاولة للتفكير بالعقل.
والشاهد أن هذه المأساة الحضارية التي تتجسّد أمامك ليست وليدة المصادفات السيئة، ولا نتيجة صيرورةٍ عفويةٍ في المفاهيم والأفكار، وإنما تأتي حصادًا لصناعةٍ ثقيلةٍ، تتولاها سلطات الطغيان والاستبداد، لتخليق ما يمكن تسميته "كائنا جهولا" بديلًا للمواطن الطبيعي، الذي هو إنسان طبيعي، يحس ويفكر ويقارن ويناقش.
تأتي صناعة الجهل هذه في سياق مشروع عام لتدمير الوعي، أو بالأحرى تثبيت إدراكات جديدة ومختلفة، تعمل بطريقة التعبئة العامة والحشو، ولا يسمح لها بالتعلم خارج نطاق حظائر الشعوذة والخرافة.
وفي ذلك يمكن رصد عشرات المحاولات لتسييد نموذج العالم الدجّال، النصاب، واعتماده باعتبارها العالم الحقيقي الذي ينتج العلم الصحيح، وهي طريقة قديمة للغاية، تضرب بجذورها في أعماق عصور الطغيان الذي لا يحيا إلا على ما تنتجه مراعي الجهل، كما كان الحال مع مدينة إسبارطة، مدينة الجهل والسفسطة والرذيلة والطغيان، بمواجهة أثينا، مدينة العلم والفلسفة والفضيلة والحكمة، مدينة سقراط وأفلاطون وأرسطو. لم تجد إسبارطة، لكي تهزم أثينا، حلا سوى سلاح التجهيل والدجل، عملًا بقاعدة "العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة"، فكان ترويج السفسطة سبيلًا للقضاء على الفلسفة، وتكريس الشعوذة حلا للتخلص من الحكمة، والإجهاز على المواطن الذي يفكّر ويبحث ويناقش ويطالب.
كانت إسبارطة مدينة نموذجية لنوعياتٍ تشبه جنرالات المفتة، وطابور العلماء الصغار (الفالصو) الذين تراهم على شاشات الجهالة يخترعون أجهزةً لترجمة لغة القطط، أو يبتكرون، وهم في سن العاشرة، بطاريات صواريخ تعمل ببقايا الوجبات السريعة، فتجدهم في ضيافة مذيعٍ، ماركة مصطفى بكري، أو أحمد موسى، يردّدون كلمات "الزعيم السيسي"، ويقدّمون لحبيبتهم مصر عصارة إنجازهم العلمي الخارق، بينما المذيع يهزّ رأسه مبهورًا، معتصرًا دموعه الصناعية، المخلوطة بحبر الوطنية الزائفة.
الهدف النهائي هو تسييد هذا النوع من العلم المزيف، وهذا الشكل من العباقرة الصغار، المولودين في فراش مشروع قومي لصناعة المواطن الذي لا يفهم ولا يسأل ولا يطلب، فقط يصفّق للزعيم وهو يحدّثه عن أنه يؤتى الحكمة من حيث لا يدري أحد على طريقة "ففهمناها سليمان"، ويصدق كل ما يسكب في أذنيه من أن مصر تقود العالم وتخيف الشرق والغرب، وتعلم الدنيا كلها الطب والهندسة والعسكرة والإنجازات.
في هذا المناخ المشبع بأبخرة الدجل، من الطبيعي أن يتهم كل من يفكر بالجنون، وكل من يغضب بالإرهاب، وكل من يناقش أو يعارض بالخيانة والعمالة، وكما يطلقون عليك المخترعين العباقرة الصغار لردعك باكتشافاتهم الأسطورية، يشهرون في وجهك عبد الحكيم جمال عبد الناصر، يبيع أباه في ذكراه، على نواصي الثورة المضادّة التي حققت أحلام الأعداء المفترضين لجمال عبد الناصر (إسرائيل والرجعية كما كان يخطب)، فيعلن عبد الحكيم أن والده قاد "30 يونيو" من قبره، تلك التي اعتبرتها إسرائيل أعظم مكاسبها بعد "كامب ديفيد".
ويطلقون عليك قوات الانتشار السريع في الرياضة المصرية، ليبتزّوك بأن كل من يهتف ضد الشخص القادم داخل "شوال الأرز" للعربدة الرياضية والإعلامية والثقافية هو من الإرهابيين العملاء "بتوع رابعة والنهضة" بلغة السوس الذي يتغذّى على ما يتساقط من الأرز، أو من القلة المندسّة، بحسب ما يرى رئيس النادي الأهلي، المتمرّد على"شيخ الأرز"، بعد فترةٍ من الغزل العنيف، مسلمًا عشرات الآلاف، وراءهم عشرات الملايين من الجماهير التي انتفضت من أجل الكرامة، في زمن النخاسة السياسية والرياضية والثقافية.
صارت الجماهير هي العدو، ومن ثم لابد من حملةٍ لنزع الحناجر، وإحراق القدرة على الهتاف، لدي هؤلاء الأوغاد الأشرار، لكي يخلو وجه الوطن لملائكةٍ بأجنحة، مثل مرتضى منصور ومحمود الخطيب، وسيدهما الذي يبدّل فيهما، كما يبدّل سياراته وغتراته.
أضف تعليقك