بقلم إحسان الفقيه
يقول الطاهر بن عاشور: "العدل مما تواطأتْ على حُسنه الشرائع الإلهية، والعقول الحكيمة، وتمَدّح بادّعاء القيام به عظماء الأمم".
لكن الحياة الإنسانية لم تخْلُ من كدَر الظلم والنأْي عن سبيل العدل، ومن ذلك ما طال أنماط التفكير من آفة تعميم الأحكام، التي لا يمكن وصفها إلا بأنها عاهة فكرية، حملتْ شكسبير على أن يقول “لا يُعّمم إلا الأغبياء”. لأن استخلاص الحكم بالعموم من خلال حالات خاصة لا يستقيم مع سلامة المنطق، وسمة التمييز لدى الإنسان الذي يُفرق بين الأشياء وبعضها ويدرك أوجه التماثل والاختلاف.
ومن صور التعميم التي تبرُز في الواقع السياسي للأمة، ذلك الجدل المُثار دائمًا حول النظرة إلى آل سعود، لأن هذه الأسرة المالكة استطاعت قرابة قرن الحفاظ على وجودها وتسلْسُل قيادتها، ونظرا للمكانة الدينية للسعودية لدى المسلمين باعتبارها راعية الحرمين، وكذلك للثِّقل السياسي والاقتصادي لها في المنطقة، كل هذه الأسباب وأكثر جعلت الأنظار تتّجه دائمًا لآل سعود، فكان الحكم عليهم مثار جدل بين الشعوب، فمنهم من يرفض مجرد انتقادهم، وهؤلاء من أصحاب الأرض المتعصبين لزمرتهم الحاكمة، ومنهم من يُطلق الأحكام بالذم عليهم جميعًا بدون تفريق، بل لا يقبل على الإطلاق أن تُذكر مآثر مَن أحسن منهم، ويعتبرها من قبيل الإضلال الفكري، والأدهى والأمر أنه يتصيد كل كلمة ذم قيلت بحقهم ولو لم يكن عليها دليل أو توثيق.
ولطالما كنتُ من أصحاب الاتجاه الذي توسط بين الطرفين، فقلت أنه ينبغي عدم وضع البيض كله في سلة واحدة، وأن ميزان الحق يلزمنا بوضع كل منهم في موضعه.
وإنني إذ أكتب هذه الكلمات في وقت أنتقد فيه النظام السعودي الحالي وبشدة، فأعتقد أن كل قارئ لديه مَسْحة عقل سوف يأبى رشقي بتهمة التطبيل لآل سعود والسعوديين، نعم أكتب هذه الكلمات في ظل استياء عام في الأمة من سياسات القيادة السعودية الجديدة، التي تأخذ بالمملكة إلى المجهول، لكن ذلك ينبغي أن لا يكون دافعًا لتعميم الأحكام على جميع من حكموا السعودية، فقد كان منهم الصالح والطالح.
لقد ذمني البعض لهذا المسلك، وكنت أُجلّي محاسن بعض حكام آل سعود أمثال، الملك عبد العزيز والملك فيصل، وحسبت أنني أقف وحدي في هذا الخندق، حتى قرأت كلمات مؤنسة للمفكر الإسلامي الشيخ محمد الغزالي تدعم وجهة نظري، وكانت بمثابة شهادة بحق الملك عبد العزيز آل سعود وحُسن سيرته، جاءت بناء على دراسة مُتعمقة للشيخ حول مؤسس الدولة السعودية الحديثة، وحسبك أن تأتي هذه الشهادة من شيخ مناضل أفنى عمره في مقارعة الظالمين والطغاة.
لقد عمد الشيخ إلى القراءة بنفسه بدون سؤال علماء السعودية عن سيرة الملك بعد مَقدِمهِ إلى مكة والتدريس في الجامعة، فاستوقفه الجانب التعبُّدي للملك، فقد كان صوّاما قوّاما ذاكرا لربه، وقال الشيخ إن الملك كان يرغب في إقامة دولة للإسلام تجمع ما تفرّق من أمره وتحميه من الخرافات. وتناول الغزالي مهاجمة بعض المتدينين للملك وطعْنهم فيه لأن البعض رغّب إليه إعلان الحرب على الإنكليز، لكنه أبى أن يتعرض لمغامرة هي في عقباها مقامرة خاسرة، بحسب كلام الغزالي، ويقول الشيخ مُبديًا رأيه في هذا المسلك: “ولا ريب أنه كان سياسيًا ماهرًا بعيد النظر”، ثم يبيّن سبب كتابة هذه السطور بقوله: “إنني أكتب هذه الكلمات إنصافًا للحقيقة العلمية، لا رغبة ولا رهبة، أكتبها بعد خمس سنين قضيتها في السعودية، كأي أستاذ يشتغل بالتعليم والتربية، ما قال لي مسؤول: لماذا كتبت عن كذا؟ أو لعلك تستدرك ما ذكرت قديما عنا، لا.. إنه العدل مع رجل عظيم أفضى إلى ربه ولا نزكي على الله أحدًا”.
وإن استشهادي بكلام الغزالي لا يقصد به الدفاع عن الملك المؤسس خاصة، إنما هو إقرار بصفة عامة للنظرة المنصفة التي تأبى تعميم الأحكام على آل سعود جميعًا، والتي هي من صميم المنهج الإسلامي ونابعة من تعاليمه، فالحق الذي لا يُنازِع فيه مسلم ولا يجحده عاقل أنه (لا تزر وازرة وزر أخرى)، وأنه ينبغي الحكم عليهم كلا على حدة، بل هي نظرة عامة في الحكم على كل فرد أو عائلة أو جماعة أو دولة، بعيدًا عن التشنّج والإلزام بما لا يلزم.
ربما يقول قاصر النظر لِم تكتبين في هذا الموضوع وما الطائل من ورائه؟
إنني أكتب إحقاقًا للحق وإنصافًا للحقيقة والتاريخ، فنقول للمحسن أحسنت، ونقول للمسيء أسأت. أكتب في ذلك صيانة لمشاعر الأُخوّة التي تربطنا جميعًا بالشعب السعودي، الذي يتأذى من وصف حكامه قديمًا وحديثًا بأبشع الأوصاف بدون تفريق بين من أحسن منهم ومن أساء، الأمر الذي يُعمّق الفجوة بين شعوب الأمة.
أكتب في ذلك تذكيرًا للأحفاد بصنيع الأجداد، ويومًا ما قال لي أحد الأساتذة الفضلاء: “أقيمي على حكام آل سعود الحاليين الحُجّة بذكر مناقب أسلافهم”، وقد ألفيتُها نصيحة نافعة لامست مبادئي ومنطقي، ولم أتوان في العمل بها.
ربما لا ينسجم هذا التناول مع تطلعات بعض الذين يستمتعون بالنيل من كل من اعتلى عرشًا، وينعتون كل من يشتم ويخلط الأوراق ويعمل على تشويه الحاكم ولو أحسن، بالشجاعة وسلامة الضمير والتنزُّه عن العمالة، وهذا حسنٌ لو كان في محلّه وَوُجِّهَ إلى الحكام الفاسدين، أما تعميم الحكم وإسقاط شمائل مَن أحسن منهم فهو مُجانبة للصواب ومُجافاة للحق، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
أضف تعليقك