بقلم..عبدالرحمن يوسف القرضاوي
يقول لي بعض الأصدقاء إن التعجل في إعلان استشهاد الكاتب جمال خاشقجي لم يكن عملا حكيما، بل هو "تسرُّع" غير محمود. وقد يكون للكلام منطق من وجهة نظر صحفية تتعلق بثبوت الخبر، وبعواقب ذلك على مؤسسات إعلامية يرصدها العالم، ولكن البعض يتحدث عن أن الحدث مشكوك فيه أصلا، بمعنى "لماذا تقتل المملكة هذا الرجل؟ وهل يُعقل أن يكون هناك دولة بهذا الغباء؟ وماذا سيحدث إذا ظهر أن الرجل على قيد الحياة؟"!
هنا... لا بد أن نقول: "اعرف عدوك"!
يقول البعض: هل يمكن أن ترتكب الدولة السعودية هذا العمل الإجرامي؟
الإجابة المجمع عليها أنهم قتلة سفاحون، وأنهم لا عهد لهم، وأن القتل ديدنهم.. ولكن السؤال الحقيقي هو: هل يمكن أن يكون إجرامهم بهذا الشكل الأحمق؟ لا بد أن هناك فخا ما في الأمر!
الحقيقة إن الأمر أغبى من أن يكون حقيقيا (It’s too stupid to be true)!
ولكن... هل خصمنا ذكي؟
هنا مربط الفرس... يظن البعض أننا نتعامل مع خصم ذكي، ويدلل على ذلك بالنتائج، فهذا العدو تمكن من هزيمتنا، وهو يقتلنا، يعتقلنا، ويشردنا، ويبطش بنا بكافة أشكال البطش، كما أنه عدو معترف به من كل دول العالم، وهذا العدو يظهر على الشاشات مع أذكى الأذكياء، يقف جنبا إلى جنب مع نوابغ العالم (بيل جيتس، ومارك زوكربرج، وأحمد زويل... إلخ)، ولكن الحقيقة أن هذه "النتائج" ليست دليل ذكائه، بل دليل غبائنا!
إن أسوأ ما في الاعتراف بغباء الخصم هو أننا بالضرورة نعترف بأننا أغبى منه.
غباء خصمنا يتبدى في مؤهلاته العقلية (الآي كيو)، وفي مؤهلاته الدراسية العلمية المتواضعة، وفي "سيستم" تسيير الدولة الذي اختاره، وهو قائم على الفساد والمحسوبية بلا أي كوابح لهذا الفساد، وفي نوعية رجال الدولة والمستشارين الذين يقدمهم على أهل التخصص والعلم، وفي عشرات الأمور الأخرى التي لا مجال لذكرها في هذه العجالة.
لو أخذنا المملكة السعودية مثالا، سنرى أننا نتحدث عن دولة كانت تملك رجال دولة حقيقيين، فأشخاص مثل الملك فهد، ومن بعده الملك عبد الله، والأمير نايف، ومن بعده الأمير محمد بن نايف، والملك سلمان... وغيرهم.. كل هؤلاء رجال دولة أيا كان رأينا فيهم، ولكن ما هو حال المملكة اليوم؟
إن المملكة تدار من مكتب ولي العهد محمد بن سلمان، وهو شخص أقل ما يقال فيه أنه لا علاقة له بالسياسة وشؤون الحكم من قريب أو بعيد، كما أنه شخص ذو إمكانات عقلية شديدة التواضع، بشهادة غالبية من تعاملوا معه، وبطريقة إدارته للأزمات (أزمة سعد الحريري مثالا)، ومكتبه يديره شخصان؛ أولهما شخص يدعى سعود القحطاني، والثاني تركي آل الشيخ، وهذان شخصان فاشلان في كل شيء، ولديهما - وحدهما - سلطات ليست لدى أي مسؤول في المملكة!
إن الدولة التي تقبل أن تدار من صبية كهؤلاء... لا شك أنها سترتكب أخطاء في غاية الغباء، مثل قتل جمال خاشقجي بهذه الطريقة المبكية المضحكة.
هؤلاء الأغبياء يحكموننا، والخلاص منهم ليس أمرا صعبا، ولكن الله ابتلانا بنخب أعماها حقدها، وأطماعها الشخصية في المال والسلطة، وكل ذلك يستغله "الأغبياء" أفضل استغلال.
إن توحد المعارضين لحكم الأغبياء كفيل بإسقاطهم في زمن قياسي، وتحويل المعركة إلى معركة ذكاء هو أفضل السبل لذلك... ولكن البعض يصر على أن الحق تلزمه القوة، وبالتالي لا بد من حمل السلاح، ومعسكر الغباء يتفوق في حمل السلاح، فالسلاح لا يحتاج إلى ذكاء، بل يحتاج إلى كل شيء سوى الذكاء.
الحق تلزمه قوة... والقوة أكبر من أن تختزل في قوة الرصاص، فهناك قوة الحجة، وقوة الجماهير، وقوة المقاطعة، وقوة العصيان الجماعي، وقوة الحصار الاقتصادي، وقوة الإعلام البديل... هناك عشرات الأشكال من القوة التي يمكن أن تحول رصاص الأغبياء إلى ملعب هامشي في المعركة الكلية بين الحق والباطل.
إن الانجرار إلى ميدان السلاح يعني أن ينتصر الأغبياء، فهم أقدر على التعامل بالسلاح، إنه ميدانهم، وهم أقوى منا فيه... أما المقاومة السلمية... فنحن فيها أقوى، ومعركتنا الوحيدة التي انتصرنا فيها (في ثورات الربيع العربي) هي المعركة التي أجبرنا فيها عدونا على مصارعتنا في الميدان الذي نتفوق فيه... لا في الميدان الذي يتفوقون هم فيه.
أما مسألة أن يعرف الإنسان نفسه... فهو نداء لكل من هم في مثل حالة الشهيد جمال خاشقجي، إلى كل الشخصيات العامة... احترسوا، ولا تكونوا فريسة لأنظمة غبية، ولا تحسنوا فيهم الظن.
لقد دخل خاشقجي القنصلية برجليه، وهو معذور... هذه الأنظمة تستغل حاجاتنا البشرية التي لا نستطيع أن نعيش دونها! مثل حاجة الإنسان إلى شهادة ميلاد لمولود جديد، إلى شهادة زواج، إلى جواز سفر سار، إلى ختم على شهادة وفاة، إلى توكيل محام... كل هذه الحاجات الإنسانية البسيطة أصبحت قطعة الجبن التي توضع لنا في مصيدة المنفى.
لا بد أن يعرف المرء نفسه، وأن يعرف أنه مستهدف، وأنه بالنسبة لهؤلاء السفاحين مجرد نقطة في معركة طويلة... ولا بد لكل من قرر مواجهة تلك الأنظمة الإرهابية أن يتذكر أن هؤلاء السفاحين لا يتورعون عن فعل أي شيء.
أما إذا اعتمدت على أن جريمة الإيقاع بك أغبى من أن يرتكبها أحد، ففي هذه الحالة ربما تكون أنت السبب في كتابة شهادة وفاتك!!!
نسأل الله أن يكشف هذه الغمة عن الأمة، وأن يهيئ لنا من أمرنا رشدا، وأن ينصرنا على هؤلاء الأغبياء... وأن يرزقنا البصيرة لكي لا نكون أغبى منهم!
أضف تعليقك