بقلم: وائل قنديل
إذن، بان القتلة أكثر سفالةً من تصوراتنا عنهم، عذّبوه وقتلوه ونشروه، ثم لجأوا إلى أحط أنواع المحامين على وجه الأرض، ليخرجهم بأقل العقوبات.
في هذا الزمن الوغد، بات ثمن الاختلاف ضربة منشار يمرُق في العظم، حادًا وبليدًا، يا الله! من أي صخر أصم قدّت ضمائر هؤلاء، ومن أي غرابيب سود صنعت قلوبهم!
لو أن المنشار الذي مزّق جسد الشهيد كان قادرًا على إعلان العصيان أمام الأيدي التي أمسكته، لكانت هذه الأيدي تملك القدرة على التمرّد على الأوامر الصادرة من الأعلى، فلا يستقيم أن نلوم المنشار أو نسب اليد المأمورة، ونمنحها لقب (مارقة)، ولا أن نناقش أسراب الذباب التي تكدّست على جانبي الفجيعة، كما يريد القتلة الحقيقيون ومحاموهم الأشرار أن يهندسوا الجريمة، ويديروا المشهد.
نحن بصدد جريمةٍ هي الأغبى في تاريخ الإجرام السلطوي، إلى الحد الذي تتعرّى معه كل الروايات ذاتيًا، من دون مجهودٍ يبذله المدافعون عن دم الشهيد. إنها لعنة الدم الذي يطارد سافكيه، فيجعلهم يتخبطون في كذبهم، فتتحوّل الكذبة قنبلة تنفجر تلقائيًا في وجه حامليها، قبل إلقائها على الخصوم. وكلما طال حبل الأكاذيب صارت الحقيقة أقرب وأوضح، وكلما تباطأوا في الاعتراف، انكشف الفاعلون الأصليون أكثر وأكثر.
منذ ما قبل انكشاف الجريمة، والرئيس الأميركي دونالد ترامب يصيح: ادفعوا وإلا لن نحميكم. ثم كرّر الصيحة بعد الجريمة، بعباراتٍ أكثر صفاقة ووقاحة، لينتقل فيما بعد إلى دور المحامي الشاطر، بائع الحماية القانونية، مستعرضًا قدراته في فن الإخراج، فاتحًا ثغرةً ينفد منها الجناة، بتعليق التهمة في رقبة مارقين صغار، غير أن الجناة ظنوا أنهم قادرون على شراء المزيد، والخروج من الجريمة بلا خسارة، فعادوا إلى اللعب على عنصر الوقت، غير أنهم أخطأوا التقدير، حين تناسوا أنه مع كل دقيقة تتسع رقعة المتابعة، لتصبح القضية السؤال الأول في أحرج اختبارٍ للضمير الإنساني في العالم كله، فيزداد تعثّرهم في بحيرة الدم، ماثلين في قفص اتهامٍ بامتداد خريطة العالم، مرتكبين واحدة من أبشع الجرائم ضد الإنسانية في التاريخ.
في المقابل، صار جمال خاشقجي أيقونةً لكل المنحازين إلى القيم الإنسانية، الباحثين عن العدل، ليرسم بدمه خريطة لواقع عربي وشرق أوسطي جديد، مستدعيًا الحنين المقموع للكرامة الإنسانية، ومذكّرًا الناس بأنه من دون إنسان لا وطن هناك، وأن الوطن ليس حجارةً صماء وترابا أخرس، وخطوطا تمتد طولًا وعرضًا في خرائط ميتة، وليس الوطن سفاحين في مسوح زعماء، وقادة يقتلون البشر بشعاراتٍ وطنيةٍ زائفة، بل هو الإنسان، خلقه الله ليعمر الأرض فتكون أوطانًا تختار بحريةٍ من يدير شؤونها، ويجعلها أكثر تحضرًا وإنسانية.
بهذا المعنى، انتصر الشهيد على قاتليه، وعلى مقياس الشعبية بات محبوه أشبه بمحيط هادر من المشاعر الإنسانية الصادقة، فيما لم يبق لمن قتلوه سوى قطعان من الوحوش وأسراب من الذباب تحط بضراوةٍ على كل من يحاول الاحتفاظ بآدميته في وجه من يريدونها غابة.
لقد رفع جمال خاشقجي الغطاء عن العالم الذي احتفى بالقتلة، ورضي بهم، ودعمهم لاعتبارات براغماتية رخيصة، ودفعه دفعًا ليطالع وجهه في المرآة، ليدرك كم صار قبيحًا ومخيفًا حين أسبغ حمايته على أوغادٍ يقتلون الإنسان، بزعم حماية الإنسانية.
سلام عليك، أيها الشهيد، لقد أعدت رسم خريطة العالم بدمك.
أضف تعليقك