بقلم: سليم عزوز
لم يكن المستهدف بالاغتيال هو الصحفي السعودي "جمال خاشقجي" وحده، فمن الواضح أن اغتياله كان ضمن خطة تصفية للمعارضين في الخارج، وإسطنبول بالتحديد، وكان صاحبنا هو البداية، لمخطط كان مقدراً له أن يطول كثيرين!
ولا يمكن لمثلي أن ينظر إلى قضية اغتيال "خاشقجي" بمعزل عن تهديد عبد الفتاح السيسي إبان حملته الانتخابية الأخيرة، بأن "كله سيحاسب"، وهو تهديد واضح للصحفيين، ثم التحريض الأكثر وضوحاً في أحد البرامج التلفزيونية، بقتل ثلاثة من الإعلاميين بالخارج هم "محمد ناصر" و"أيمن نور" و"معتز مطر"، عندما قال من هددهم إن من قابلهم فليقتلهم، وهو على ما يبدو غطاء لما ستقوم به الأجهزة الأمنية، فينسب الأمر إلى أناس من الشعب أخذوا النصيحة مأخذ الجد، أو من "المارقين"، بحسب زعيم العصابة "دونالد ترامب"!
لقد فتحت تركيا أبوابها في وجه الهاربين من نير الاستبداد، بدون قيد أو شرط، فصارت مكاناً آمنا لكل الكثيرين من جنسيات مختلفة، لا ينتمون فقط لبلدان الربيع العربي، وقد تآمرت عليه الثورة المضادة، ومن مصر إلى اليمن، مروراً بسوريا وليبيا، فحتى الهاربون من دول الخليج وجدوا في تركيا الملاذ الآمن؛ لأن على رأس الحكم فيها رجل لا يظلم أحد عنده!
وسمحت أنقرة للمعارضين بإطلاق قنواتهم التلفزيونية، التي تقوم بمواصلة فضح الثورة المضادة، وما أنتجته من أنظمة مستبدة وقاتلة، ولم يعد سراً أن القنوات الثلاث التي تبث من إسطنبول للشعب المصري؛ صارت، على ضعفها وقلة إمكانياتها، قبلة للمصريين، فلم يعد يشاهدها فقط أولئك الذين رفضوا الانقلاب من أول يوم، بل صارت هي القنوات المعتمدة في كثير من البيوت، وأصبح "معتز مطر" و"محمد ناصر" هم نجوم المرحلة بلا منازع، بعد أن ولى زمن الأذرع الإعلامية، وانصرف عنهم المشاهد؛ فلم يكن هناك مناص بعد ذلك من الاستغناء عن خدماتهم، توفيراً للنفقات، وراتب الواحد منهم بميزانية قناة من هذه القنوات!
ولم تعد هذه القنوات الثلاث تخاطب المصريين وحدهم، فمن خلالها عرفنا معارضين من دول أخرى، فعرفنا مثلاً "حسن الدقي"، المعارض الإماراتي الذي يقيم في تركيا أيضاً، ومعلوم أن في تركيا قنوات سورية، وليبية، ويمنية، ونحو ذلك، وأصبحت الخطوة القادمة هي إسباغ المشروعية القانونية على هذه المحطات التلفزيونية بإنشاء مدينة حرة للإنتاج الإعلامي، بعد فشل هذه المدن التي أنشئت في عدد من العواصم العربية، فلا حرية مع وجود الاستبداد، ولا نجاح لإعلام يدار بعقلية "البيادة" ومنطق "الوحدة العسكرية"!
وتعتقد أنظمة الاستبداد العربي أن مشروعها في خطر، ما دامت تركيا تمثل ملاذاً لهؤلاء، وقد كان المخطط لإنهاء هذا الوضع هو الانتقال بالانقلاب العسكري إلى تركيا، لكن المحاولة أحبطت وخرج الشعب منها منتصراً، وطوى صفحة الانقلابات العسكرية للأبد، وقد صارت تنتمي للتاريخ، ولم يشارك الشعب التركي وحده في التصدي للانقلابين، فقد شاركه ضيوفهم ولم يكونوا أقل شجاعة، فكانوا يدافعون عن نظام حكم يحتمون به، وجاء وقت رد الجميل فلم يتأخروا!
ثم كانت محاولة إسقاط أردوغان بالاقتصاد والتلاعب في الليرة، وفشلت المحاولة، وقد تزامن معها محاولة إسقاطه بالانتخابات، وفي معركة انتخابية بدا وحده أنه المنحاز لمكانة تركيا كحاضنة لكل الهاربين من أوطانهم، فكان الانتقال إلى مرحلة جديدة، وهي تصفية المعارضين، وكان "جمال خاشقجي" هو البداية، ولم يكن القوم يعتقدون أن ردة الفعل ستكون على هذا النحو!
"خاشقجي" ليس مقيماً في تركيا، فكان يمكن استهدافه في أي مكان آخر، كما أنه لم يكن منطقياً أن ترتكب الجريمة في القنصلية، فقد كان يكفي أن يتعرض لحادث سير، مدفوع الأجر، لكن الجناة كان يستهدفون بهذه العملية توصيل رسالة لتركيا، وللمعارضين من الجنسيات المختلفة، بأن أحداً لم يعد آمناً على حياته، وأن تركيا لم تعد بلد الأمن والأمان كما توهموا، فلا يكون أمام تركيا - والحال كذلك - إلا أن تطلب منهم المغادرة، أو الصمت، وهو ما يستدعي إغلاق القنوات التلفزيونية ووقف أي أنشطة أخرى، ولو كانت مجرد مراكز للأبحاث والتعليم!
لأنهم من الغباء بمكان، فلم يتخيلوا ردة فعل العالم على مقتل "جمال خاشقجي"، ولهذا لم يأخذوا التدابير اللازمة للإفلات من الجريمة، فتركوا خلفهم الكثير من الخيوط الدالة عليهم، فلم يعد التعرف على القتلة بحاجة إلى محاكمات طويلة قد تستمر العمر كله؛ لتقيد القضية في النهاية ضد مجهول!
لقد أمسكهم العالم متلبسين بجريمتهم، فأنكر بعضهم بعضاً، وصمت الحلفاء خوفاً، ثم أخذ السيسي نفسه وأصدرت الرئاسة بيانا بعد عدة أيام من ارتكاب الجريمة؛ روعي أن يصدر وهو في الخارج وقت صدوره، وإذ به بيانا هزيلاً، لا يمثل دفاعاً قوياً ومتكاملاً عن حليفه، فهو فقط يطلب بعدم تسييس القضية، وكأنها في الأصل قضية نفقة شرعية، تنظرها محكمة الزنانيري للأحوال الشخصية، يستوجب نظرها في "غرفة المداولة" حفاظاً على أسرار البيوت وأعراض الأسر!
أما حاكم أبو ظبي، فقد صمت، واختفى تماماً، واعتذر عن لقاءات في الخارج؛ الذي تحرك ليندد بالجريمة، وتتحرك الدول الكبرى لتقاطع السعودية ما دام محمد بن سلمان في الحكم!
لقد فشل المخطط.. وهُزم الجمع، وانتصر أردوغان.
أضف تعليقك