بقلم: وائل قنديل
تتساقط الأكاذيب ذاتيًا، بأسرع مما يتساقط الذباب المكدّس حول أعمدة الكذب المقدسة، حين تتعرّض لضوء الحقيقة ولهيبها، وعلى الرغم من ذلك، هم مستمرون في اللعبة، من دون أن يدركوا بعد أن عهد الاستحمار قد ولَّى، وأن أحدًا من العقلاء لم يعد يقبل باستحماره، بعد أن تنازل الكذّابون عن رواياتهم.
أكثر من أسبوعين، وهم يقدمون لك أطباقًا شهية من الكذب الفاخر، ويستهدفون رأسك بكل أسلحة الدعاية، يقصفونك بحكايات إعلامٍ يحترف الدجل والشعوذة، ويقذفونك بفتاوى شيوخٍ باعوا دينهم في بلاط الحكم، مستبسلين في الدفاع عن روايةٍ واحدةٍ عن فاجعة جمال خاشقجي، تقوم على الإنكار التام، ثم فجأة، حين تحاصرهم الحقيقة، يقرّون بما أنكروه، ويعترفون بما رموا به خصومهم.
اليوم، لا حجة لديك، لكي تستمر خاضعًا لآلة “الاستحمار” التي تستهدفك منذ سنوات، بعد أن اختبرت بنفسك رواياتهم الملفقة، ليرفع الستار، في النهاية، على مشهدٍ شديد البؤس، تتهاوى فيه “ترسانة المستحمرين”، ويقفون عراةً أمام العالم.
أكثر من خمس سنوات مضت، وهم يرهبونك بالأكاذيب، وأنت تستقبل، بلا أية رغبةٍ في النجاة برأسك، ليس استعذابًا أو تلذّذًا بالحالة، وإنما هو الاعتياد الكسول.
أكثر من خمس سنوات وهم يتحدّثون عما تسمّى “معركة الوعي”، وأنت راضٍ بهذه اللعبة، ففيها ملاذٌ آمن من سؤال الضمير، وشمّاعة تعلق عليها استسلامك للنصوص الكاذبة.
هل لا تزال هناك أزمة وعي حقًا، بعد انكشاف كل هذه الأكاذيب؟ أثق، منذ البداية، في أنك قادر بذاتك على التفريق بين الفاسد والصالح، بين الحقيقي والمزيّف، لكنك تبتلع الأكاذيب بمزاجك، لن أقول انتهازيةً أو جبنًا، سأقول كسلًا وإيثارًا للسلامة، أمام هذا الإرهاب الذي تمارسه عليك أساطيل إعلامٍ مسعورة، وبيارق فتوى مأجورة.
الآن، ها هم يعترفون أمامك بالكذب، وها هي الوقائع على الأرض تعرّي كل ما تظاهرت بتصديقه، خوفًا أو طمعًا، فهل أنت مستمرٌّ في إهانة رأسك، وتقبل احتقار وعيك وضميرك؟.
أنت جرّبت هذه المعادلة بنفسك، خمس سنوات، بدأت بالتحديد معرض التحضير لجريمة الثلاثين من يونيو/ حزيران 2013 في مصر، حين قبلت أن يحشدوك إلى “ثورةٍ كاذبة”، كنت تعلم كذبها في وعيك الباطن، لكنك تحت إرهابهم خرجت تبحث عن الجنة تحت قيادة شياطين، اجتمعوا عليك، من الخارج والداخل، فانظر ماذا حصدت؟.
هل ارتفعت قيمتك على مؤشر الإنسانية؟ هل بقي شيء من كرامتك؟ هل أنت متصالحٌ مع ذاتك ومع عقلك ومع مجتمعك؟هل أنت الآن آمن ومستقر؟. طالع تفاصيل المشهد ودقّق النظر جيدًا، ستجد أن النظام الذي أطعمك الأكاذيب ساخنة وطازجة عن اعتصام رابعة العدوية هو ذاته النظام الذي قتل الشهيد جمال خاشقجي، وقطع رأسه ومزّق جثته، ثم قال لك إنهم الإخوان وقطر وتركيا الذين ارتكبوا الجريمة، فلما حاصرتهم الحقائق، اضطرّوا للاعتراف بأن رجالهم (المارقين) هم الذين فعلوها.. هو نظام عربي واحد يريد أوطانًا بلا مواطنين، ويبيع لك وطنية فاسدة، منزوعة القيم الإنسانية، لا تعترف بحقّك في الحياة، وإن اعترفت فأنت وحياتك للحاكم.
في ظل هذا النظام أنت متهم بالخيانة والعمالة لو طلبت الحقيقة، أو احترمت العقل، أو استخدمت الضمير، المهني والإنساني.
أنت مارقٌ وزنديق، إن تمرّدت على نصوص عقيدة الاستحمار، التي يعتنقها “نظام الثلاثين من يونيو”، الممتد بطول الخريطة العربية وعرضها، فتحسّس رأسك، أو حاول أن تحافظ عليها، بعد أن أعلن جمال خاشقجي، باستشهاده، نهاية عهد الاستحمار، فلا حجّة اليوم لمن يرضى بسفك دم أخيه، ثم يظن أنه يفتدي الوطن.
الوطن هو الإنسان.
أضف تعليقك