• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانية واحدة

وائل قنديل

كانت عودة حمدي قنديل إلى التلفزيون، في أواخر تسعينيات القرن الماضي، ثورة إعلامية على الركود والتكلس والبلادة، حيث أسّس لنمط جديد من الصحافة المرئية عبر برنامجه "رئيس التحرير" الذي لم تحتمله دولة حسني مبارك، فبحث له عن نافذة أخرى، سرعان ما أغلقت، فكانت ثالثة، فرض عليها الإغلاق أيضًا.

وحين جاءت ثورة يناير في 2011، وجد حمدي قنديل غرسه مثمرًا في الميادين التي لم يغب عنهاً، وبقي فاعلًا في المشهد الثوري، ثم كان الاختبار الأخلاقي الأكبر الذي وجد نفسه أمامه في انتخابات الرئاسة 2012، وهو معبأ بالهوى الناصري المعتق، فأعلن تأييده المرشح الإخواني الصريح، وكان في طليعة الجبهة الوطنية التي تمخض عنها "اجتماع فيرمونت" الشهير، وهي الجبهة التي تصدّت لرغبة المجلس العسكري في التلاعب بنتيجة الاقتراع لصالح مرشّح الثورة المضادة ونظام مبارك.

كان حمدي قنديل أول من عُرِضَ عليه منصب وزير الإعلام مع الرئيس محمد مرسي، غير أنه رفض استجابةً للمبدأ الذي توافقت عليه الجبهة الوطنية، وهو أنها جبهة ضمير وطني ومراقبة ومحاسبة، فلن يكون المشاركون فيها جزءًا من مؤسسة الرئاسة، سواء في مواقع تنفيذية أو مناصب استشارية، فيما سال لعاب آخرون كانت الجبهة بالنسبة لهم، للأسف، قاربًا للعبور إلى المناصب الرئاسية.

وتبقى قيمة حمدي قنديل المهنية محل إجماع، لا يشكّك فيها أحد، حتى أشد المختلفين معه، والرافضين بعض مواقفه السياسية، وفي ذلك كتبت في مارس 2009، بعد أن أغلقت كل المنافذ الإعلامية في وجه برنامجه الذي كان ينتظره المواطن العربي من المحيط إلى الخليج، سطورًا لا أجد مناصًا من إعادة نشرها، بعد رحيله أول من أمس، إثر معاناة مع المرض.

قبل عشر سنوات من الآن، كان المشاهدون المصريون يستقلون قطارا تليفزيونيا واحدا اسمه "قطار حمدى قنديل"، كانوا ينتظرون "رئيس التحرير" كل جمعة، على الرصيف المواجه لمبنى ماسبيرو، لينطلقوا معه وبه، مدة تزيد على الساعة، فى براح الكلمة المتلفزة النقية.

ومع الوقت، أصبح حمدى قنديل المتحدث الرسمى باسم ملايين المشاهدين الباحثين عن بقعة صغيرة هادئة فى المسافة بين حرائق مجنونة تندلع على صفحات جرائد المعارضة وبركة مياه آسنة، تنبعث منها روائح التخمر والتجمد فى جرائد الحكومة المسماة تلطفا "القومية"، غير أن الأمور لم تمض كما أراد لها الجمهور، فقد ضجّ أصحاب ماسبيرو بما اعتبروه خروجا على النص، أو تجاوزا للسقف من "رئيس التحرير"، وبعد سلسلة من التحرّشات والمضايقات، خبا البرنامج رويدا رويدا: يُذاع أسبوعا، ويُحجب أسبوعا آخر، وفى ضربةٍ خاطفةٍ تشبه عمليات الاغتيال بالسيارات المفخّخة فى بيروت السبعينيات، اختفى "رئيس التحرير" من التليفزيون المصرى بلا رجعة.

وقد قيل ما قيل فى أسباب اختطاف برنامج حمدى قنديل من مشاهدى ماسبيرو، إلا أن صاحب الشأن لم يتحدّث حتى الآن عن أسباب تهجيره قسرا من تليفزيون بلاده، حتى بعد أن ظهر مغرّدا فوق أشجار أخرى، لم يشأ أن يكشف المستور في قصة خروجه ببرنامجه من مصر. والغريب أنه فور تكهين قطار "رئيس التحرير" انقض الجميع على التركة، مثل الجوارح الجائعة، كلٌّ يختطف قطعة، أو يسطو على جزءٍ من الفكرة. وهكذا تحول القطار الفاخر إلى مجموعة من الميكروباصات و"التوك توك" من دون أن يضع أحد من الذين "قرصنوا" على فكرة البرنامج فى عينه حصوة ملح، وينسب الفضل لصاحبه، أو يقول إن ما يقدّمه هو امتداد لما حفره حمدى قنديل في صحراء الإعلام المصري.

وبمرور الأيام، انتشرت البرامج التى تتغذّى على حليب الصحافة المكتوبة انتشار "التوك توك" في المناطق العشوائية، فيما بقى حمدي قنديل وحيدا مطاردا هناك فى البعيد البعيد، يبتسم ساخرا من الصغار الذين انقضوا على زرع يديه، وأعادوا تغليفه وطرحه فى الأسواق بأسماء مشابهة، على طريقة البضاعة الصينية والتايوانية التى تحاول محاكاة المنتج الأصلى.

حمدى قنديل يواصل ترحاله الإجباري، وهم لا يتورّعون عن الحديث عن الريادة والتطوير، و"التوك توك" يتسيد الساحة.

أخيرًا، وصل قطار حمدي قنديل إلى محطة النهاية، فيما بقيت "التكاتك" تعربد في دروب الإعلام.

 

أضف تعليقك