د. خالد سعد النجار
أصحاب الهمم العالية أعمدة أي حضارة ظهرت في سماء التاريخ، بهم تقوم وعليهم يعول استمرارها وازدهارها. ولقد سجل التاريخ لنا في كل حضارة أفذاذا من العلماء والمفكرين لا يمل القارئ من مطالعة سيرتهم، وجهادهم في الوصول إلي القمم الشاهقة من جبال المجد.
ولقد قامت الحضارة الإسلامية على أمثال هؤلاء العباقرة، ولكن تفرد الحضارة الإسلامية بخصائصها وسماتها جعلت لهم رونقا متميزا، فصار الحديث عنهم ضربا من ضروب الأعاجيب، تنبهر به العقول والأفئدة، وصارت سيرتهم وقودا يشحذ همم المسلمين الراكدة في مبارك الكسل تنادي بسر تقدمهم وسر تقهقرنا .
من أبرز سمات الحضارة الإسلامية ( الإخلاص ) الذي أوجبه الله تعالى على الموحدين، قال تعالى: { فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا } [الكهف:110]، فهذا شرط أبدي لكل من عمل عملا، أن يكون لله تعالى، لا لمدح مادح، ولا لشكر شاكر، ولا لنيل عرض من الدنيا، فالرياء ليس له مكانة ولا ثواب في الإسلام لأن حبله مقطوع ومدده ممنوع، ولذلك لعن -صلى الله عليه وسلم- حركات الدنيا إذا كانت لغير الله، فقال -صلى الله عليه وسلم-: ( الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلا ما ابتغي به وجه الله ) [رواه الطبراني]
وكفي أن يمتزج أي كفاح بالإخلاص، فهو أعظم دافع نحو الصدق والنقاء والتفاني في بلوغ أكرم غاياته، وكفي بالإخلاص غارسا للبركة في العمل، ولذلك لما شاب إخلاصنا اليوم الشوائب عقمت الأمة أن يكون فيها مثل صلاح الدين، بل مثل أحد من جنوده.
كما اتسمت الحضارة الإسلامية بـ ( النقاء والطهارة ) من كل صور وصنوف الرجس، حتى بات وجدان المسلم ينفر من الرجس، فلا تجد في تاريخ الحضارة الإسلامية مثلا مفكرين يفسرون سلوكيات البشر على أساس من الدوافع الجنسية، أو تجد صناع كان لهم الفضل في تطوير صناعة الخمور، بل إن الفن الإسلامي كان على أروع ما يكون من الزخارف والبناء بتنزه الفنان المسلم عن تصوير أو تجسيم الصور المبتذلة والعارية.
واتسمت الحضارة الإسلامية بـ ( الجد والنشاط ) فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ( إن الله يحب معالي الأمور ويكره سفسافها ) [رواه الطبراني]. وكان من دعائه -صلى الله عليه وسلم-: ( وأسألك العزيمة على الرشد ) [رواه أحمد] ولقد كان من أوصاف صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنهم ( كانوا يتبادحون بالبطيخ، فإذا كانت الحقائق كانوا هم الرجال )
وجاء الإسلام بدعامة «تصحيح المفاهيم» ومن أهم المفاهيم التي صححها الإسلام أن ثروة الأمة في النابغين من أهلها، فالإسلام أهتم برعاية بالنابغين، ونفي فكرة «جنون العباقرة» التي كانت سائدة في كثير من المجتمعات البشرية.
علو الهمة في العبادة
كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ذلك قدوتهم، فلقد كان عليه الصلاة والسلام يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، وعن حذيفة -رضي الله عنه- أنه رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي من الليل فقال: الله أكبر (ثلاثا) ذو الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة ثم افتتح فقرأ البقرة ثم ركع، فكان ركوعه نحوا من قيامه، وكان يقول في ركوعه: (سبحان ربي العظيم) ثم رفع رأسه من الركوع، فكان قيامه نحوا من ركوعه، يقول: (لربي الحمد) ثم سجد، فكان سجوده نحوا من قيامه، يقول: (سبحان ربي الأعلى) ثم رفع رأسه من السجود، وكان يقعد فيما بين الجدتين نحوا من سجوده، ويقول: (رب اغفر لي) فصلى أربع ركعات، قرأ فيهن البقرة وآل عمران والنساء. [رواه أبو داود]
وكان أبو بكر -رضي الله عنه- شجي النشيج كثير البكاء، وكان في خد عمر -رضي الله عنه- خطان من آثار الدموع، وكان عثمان -رضي الله عنه- يختم القرآن في ركعة، وكان علي بن أبى طالب -رضي الله عنه- يبكى بالليل في محرابه حتى تخضل لحيته بالدموع، ويقول: يا دنيا غري غيري.
قالت بنت الربيع ابن خيثم له: مالي أرى الناس ينامون وأنت لا تنام؟ فقال: إن أباك يخاف عذاب البيات.
وكان أبو مسلم الخولاني يعلق سوطا في المسجد يخوف به نفسه، ويقول لنفسه: "قومي، فو الله لأزحفن بك زحفا حتى يكون الكلل منك لا منى" فإذا دخلت عليه الفترة، تناول سوطه وضرب به ساقه، يقول: "أنت أولى بالضرب من دابتي" وكان يقول أيضا: "أيظن أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- أن يستأثروا به دوننا؟ كلا والله لنـزاحمهم عليه زحاما حتى يعلموا أنهم خلفوا وراءهم رجالا".
وقال سعيد بن المسيب إمام التابعين: "ما فاتتني التكبيرة الأولى منذ خمسين سنة، وما نظرت في قفا رجل في الصلاة منذ خمسين سنة" ويؤثر عنه أنه حج أربعين حجة، وما ترك الدعاء والقيام منذ عرف الإسلام حتى لقب براهب قريش، وكان إذا دخل الليل يخاط نفسه: "قومي يا مأوى كل شر والله، لأدعنك تزحفين زحف البعير" فكان إذا أصبح وقدماه منتفختان يقول لنفسه: "بذا أمرت ولذا خلقت".
ويقول ابن الجوزي عن نفسه: كنت في بداية الصبوة قد ألهمت سلوك طريق الزهاد بإدامة الصوم والصلاة، وحببت إلي الخلوة، فكنت أجد قلبا طيبا، وكان عين بصيرتي قوية الحدة، تتأسف على لحظة تمضي في غير طاعة، وتبادر الوقت في اغتنام الطاعات، ولي نوع أنس وحلاوة مناجاة.
وعن مسلمة بن منصور قال: اشترى أبى غلاما، وكان للأحنف بن قيس فأعتقه، فأدركته شيخا، وكان يحدث أن عامة صلاة الأحنف بالليل الدعاء، وكان يضع المصباح قريبا منه فيضع إصبعه عليه فيقول: "حس يا أحنف، ما حملك على ما صنعت يوم كذا وكذا، يعنى كذا وكذا".
وعن سعيد بن زيد قال: سمعت أبي يقول: قيل للأحنف بن قيس: إنك شيخ كبير، وإن الصيام يضعفك. قال: أعده لشر طويل.
وكان إبراهيم التيمي إذا سجد تجيء العصافير تنقر على ظهره كأنه جذم حائط.
وقال عون بن عبد الله لأبي إسحاق: ما بقي منك يا أبا إسحاق؟ قال: بقي مني أن أقرأ البقرة في ركعة. قال: بقي خيرك، وذهب شرك.
وكان عطاء بعدما كبر وضعف يقوم إلى الصلاة فيقرأ مائتي آية من البقرة، وهو قائم، ما يزول منه شيء ولا يتحرك.
لقد أحبوا الله حق المحبة، فصدقوا الله في العبادة، وتبارت هممهم للقرب من رب العالمين، وضربوا للبشرية أروع مثال في عبادة الرحيم الرحمن.
المصادر
رياض الصالحين، النووي
صيد الخاطر، ابن الجوزي
علو الهمة، محمد بن إسماعيل
العثمانيون في التاريخ والحضارة، د. محمد حرب
البداية والنهاية، ابن كثير
أضف تعليقك