بقلم عصام تليمة
أحداث العدوان الأخير على غزة، إحدى أهم بقع النضال والكفاح ضد الكيان الصهيوني، تؤكد معنى مهما يثبته الدين والتاريخ والواقع، وهو مكان ومكانة العلماء الربانيين من الشهادة، وجمعهم بين العلم والعمل، وأن العلم لا يتوقف بصاحبه عند مجرد نيل العلم، والجلوس للوعظ والتعليم فقط، بل الفهم الدقيق والمنضبط للإسلام هو الجمع بين العلم والعمل، النضال بالقلم والنفس، كما قال تعالى: (وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) آل عمران: 79.
كل هذه المعاني وغيرها تتوارد على العقل والقلب، بعد خبر استشهاد القائد القسامي نور الدين بركة، وهو دارس للشريعة الإسلامية، وحافظ للقرآن الكريم كاملا بالقراءات العشر، وحاصل على ماجستير في الفقه الإسلامي المقارن، في دراسة متممة بعنوان: (الإهمال في العمل الجهادي.. دراسة فقهية مقارنة)، ليثبت بذلك علماء غزة أنهم على طريق الشهادة، ولسنا نقصد بغزة هنا البقعة الجغرافية المعروفة، بل المقصود فلسطين كلها، لكن الواقع الآن يجعل الأنظار تشير إلى غزة كرمز كبير للنضال الفلسطيني.
وقد سبق نور الدين بركة آخرون ومنهم قائد قسامي جمع بين الشريعة والنضال، هو: الشهيد نزار ريان الذي درس الشريعة الإسلامية في جامعة الإمام محمد بن سعود بالمملكة العربية السعودية، ثم نال درجة الماجستير والدكتوراه، وكان أستاذا لمادة الحديث النبوي الشريف، وكان قائدا ميدانيا في كتائب القسام، وليس مستغربا عليه وعلى نور الدين بركة، فهما وغيرهما ينتسبان لكتائب القسام، نسبة للعالم الرباني عز الدين القسام، الذي كان نموذجا للجمع بين العلم الشرعي، والنضال والمقاومة في فلسطين، ونال درجة الشهادة كذلك، وتكريما له سميت باسمه (كتائب القسام).
إن نماذج العلماء الذين جمعوا بين العلم الشرعي والنضال، كثيرة جدا، وهي تدل دلالة واضحة على أن العلم الذي يقعد بصاحبه عن قول الحق، أو النضال لأجله، فهو علم قاصر، يقصر بصاحبه عن الفهم الشامل للدين، أو التطبيق الصحيح له، فبالنظرة الخاطفة على تاريخ الإسلام منذ العهد النبوي سنجد ذلك واضحا جليا، فحادثتي: (بئر الرجيع) و(بئر معونة) اللتين استشهد فيهما ما يقرب من ثمانين صحابيا، من القراء للقرآن الكريم، والدعاة إليه، في فاجعة كبرى نتج عنها قنوت النبي صلى الله عليه وسلم شهرا حزنا عليهم.
قارئ القرآن
والمتأمل في السبب الذي دعا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يشير على الخليفة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، بجمع القرآن الكريم، يؤكد نفس المعنى السابق، فقد كان ذلك بعد حادثة (معركة اليمامة) التي استشهد فيها عدد كبير من القراء من الصحابة، وقد كان شعارهم: بئس قارئ القرآن نحن إن لم نكن في مقدمة الصفوف التي تجاهد ضد أعداء الإسلام المحاربين له.
والتابعون من بعدهم ساروا على خطاهم، فعرف التاريخ الإسلامي: ثورة الفقهاء، التي قادها ابن الأشعث، وسعيد بن جبير، وغيرهما من كبار فقهاء الأمة، بل حتى كبار الفقهاء الذين ينتسب إليهم السلفيون المعاصرون كابن تيمية رحمه الله، كانت حياته كلها نضالا وجهادا في سبيل الله، سواء ضد الغزاة لأمة الإسلام، أو ضد الحكام الظلمة، بل مات في السجن، ليدل الفصل بين حياة الرجل العلمية والنضالية على جهل كبير به ممن يزعم اتباعه في فتاواه وعلمه، تاركا أهم ما يميز الرجل وهو جهاده ونضاله.
فليس غريبا إذن ما ذكرنا به شهداء غزة، من علماء ودعاة، الذين جمعوا بين حفظ القرآن في الصدور، وتعليمه للناس في المساجد والحياة، ثم سطروا أسماءهم بدمائهم الزكية شهداء يرتوي بها تراب أرض فلسطين، ليجمعوا بين العلم والعمل في أبرز صوره وأوضحها، لتظل غزة معلمة للأمة الإسلامية فعلا لا قولا فقط.
أضف تعليقك