• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانية واحدة

بقلم سمية الغنوشي

ترددت كثيرا في كتابة هذا المقال خشية ان يختلط موقفي هذا بمواقف والدي الشيخ راشد الغنوشي، لكنني خيرت في نهاية المطاف ان اعبر عن رايي الشخصي بحرية، وبعيدا عن كل القيود الشخصية او الحزبية.

يزور ولي العهد السعودي تونس خلال الايام القادمة مثقلا بجريمة قتل بالغة البشاعة هزت الضمير العالمي وشغلت وسائل الاعلام الدولية ووسائط التواصل الاجتماعي لأشهر متتالية، مثلما هو مثخن بسجل من القمع طال حتى ابناء عمومته وأركان حكمه .

 قوبلت هذه الزيارة بمستوى رفض شعبي غير مسبوق، على نحو ما تبرزه مواقع التواصل الاجتماعي. كما اثارت قدرا كبيرا من السخط في أوساط المجتمع المدني، من هيئات الصحافيين والمحامين والطلاب وغيرهم.

استشعر الناس بحسهم البسيط ان هذه الزيارة ليست حبا في تونس والتونسيين، بل بغية تبييض صفحة ولي العهد الذي بات منبوذا في جل العواصم العالمية، رغم كثرة ماله وجلبة رجاله. ولا احسب ان أهل تونس الذين انتفضوا لحريتهم، ستستهويهم حفنة من الدولارات، فالكرامة عندهم قبل المال المغمس بالدماء.  

كان من الممكن ان تكون هذه الزيارة عادية وروتينية شانها في ذلك شان زيارات الرؤساء والملوك العرب التي لا تأتي غالبا بالجديد، وكان يمكن ان نرى فيها خطوة إيجابية لدعم اسس التعاون والتضامن العربيين ، لولا ان هناك مجموعة من العوامل تخرجها عن نطاق المعقول والمقبول.

منذ اندلاع ثورتها، ناصب حكام السعودية تونس العداء وعملوا على تعويقها وإنهاكها بشتى السبل، خشية سريان عدوى الديمقراطية فيها لعموم المنطقة.

 لم تتردد الرياض في استضافة الرئيس المخلوع، ثم طفقت، بمعية ولي عهد الامارات، محمد بن زايد، تشكل محورا مضادا وضع على راس أولوياته الإطاحة بموجة التغيير العربية وتخريبها، عبر دعم الانقلاب العسكري في مصر وبث الفوض في ليبيا واليمن، والسعي لإجهاض تجربة تونس الديمقراطية الوليدة بكل السبل، المخفية منها والمعلومة..

ما الذي ايقظ ضمير حكام الرياض اليوم فجاة فامموا وجوههم شطر تونس محملين بعبارات الأخوة ووعود الاستثمار، وهم الذين استعدوا  ثورتها وما انفكوا يتحسرون على مخلوعها؟

في رقبة بن سلمان جريمة قتل مدبرة بأمر وتوجيه منه ومن زمرة المحيطين به، نفذت في مقر قنصلية بلاده في اسطنبول، على ما أكدت كل التقارير الدولية، جريمة مروعة تذكرنا بالعصور الوسطى وحكامها الاطلاقيين الذين لا يتورعون عن جز الرقاب وتقطيع الأوصال والتمثيل بالجثث، اشباعا لغرائزهم في الانتقام وشهوة الحكم.

 هل ثمة ما يبرر بمنطق الاخلاق او الدين او العقل استدراج صحفي وازهاق روحه وتقطيع جسده إربا اربا، ثم تذويبه بالحامض الفوسفوري، والتخلص مما تبقى منه في مياه المجاري، فلا يبقى منه اثر على وجه البسيطة، ولا قبر تقرا عليه فاتحة الكتاب ؟

 ليس مقبولا من تونس وثورتها ان تستضيف ضالعا في جريمة مروعة صعق لها العالم وبات جل زعمائه يترددون في مجرد مصافحته خشية ضغط الرأي العام في بلدانهم.. هذا اذا استثنينا ترامب الذي ما انفك يناور ويمد له حبل النجاة من عمق الهاوية التي تردى فيها، وهو يدرك انه سيلفه قريبا حول رقبته ليبتزه اكثر مقابل السكوت على فضيحته المدوية. .
.
ليس سرا ان بعض مراكز الحكم في تونس باتت تراهن على امتطاء مركب المحور المضاد لثورات الربيع العربي، ولو كلّف ذلك البلاد أمنها واستقرارها وتجربتها الديمقراطية. وهي لا تجد حرجا في الارتماء في احضان داعمي الانقلابات والدكتاتوريات المعادين لارادة الشعوب وتحررها، فمعركة الحكم عندها هي الأهم، وهي فوق مصالح البلاد وأولويات الوطن. وهذا لعمري للعب بالنار وتدمير لهم قبل غيرهم..

 مقتل خاشقجي كشف الستار عن مدى توحش أنظمة الحكم العربية وصلفها وعربدتها، فما جرى لجمال ليس الا صورة مكثفة البشاعة لما يقع في المعتقلات والدهاليز المظلمة العربية من صلف وامتهان للذات البشرية ورعب اسود.

 وهو شهادة مدوية على ضرورة الفكاك من هذا
النمط من الحكم المظلم الدموي، الذي تارة يخفي سوأته تحت عباءة الدين وتارة خلف واجهة الحداثة.  

يجثم على صدور العرب مشرقا ومغربا حكم مستبد، يتراوح بين عساكر عنيفين مغامرين وملكيات إطلاقية تتحكم في السلطة والثروة وتمتلك الارض ومن عليها من بشر وحجر.

 الحاكم هنا قوة خارقة فوق البشر، السلطة عنده استحقاق طبيعي اوتيه بقوة السيف والنسل. هنا، لا يامن المرء على نفسه او ماله او عرضه، فالحاكم هو من يبسط الرزق ويمنعه، وهو الذي يحيي ويميت، ان شاء اعلاك وان أراد زج بك في غيابات السجن او ارداك قتيلا وغيب أثرك.

  لذا يمكننا ان نفهم ترديد رجالات النظام السعودي في معرض الدفاع عن جريمة قتل خاشقجي بانه مواطن سعودي، ولسان حالهم يقول: "الرجل سعودي ومن حق ولي أمره ان يفعل فيه ما يشاء، بما في ذلك تقطيع أوصاله بالمنشار الالكتروني.. ما دخلكم انتم، في ما يصنع صاحب الملك في ما يملك؟".

على الجهة الغربية من العالم العربي نجحت تونس، وسط الاعاصير والمؤمرات والدسائس من محيطها العربي بقيادة الرياض وأبو ظبي، في ان تحث الخطى لبناء حياة ديمقراطية ناشئة وتتخلص من الحكم الاستبدادي والقهري، عبر برلمان حر ومنتخب وأحزاب متنافسة ومجتمع مدني متحرك، ومحاولات دؤوبة لترسيخ حرية القضاء والصحافة، ومنع التعذيب وضمان المحاكمات المستقلة والعادلة، والحق في مساءلة المسؤولين والوزراء في البرلمان امام أنظار الشعب.

 هذا لا يعني ان اوضاع تونس مثالية او انها تعافت من كل عاهاتها وأنجزت كل ما تصبو اليه، لكنها بكل تاكيد وضعت نفسها على خط التحرر السياسي وفِي الاتجاه الصحيح للتاريخ والمستقبل.

 نقيض كل هذا المتربع على الجهة المقابلة، هو نموذج الحكم السعودي المطلق، المغلف بشرعية خدمة الحرمين، حيث يفعل الحاكم المطلق ما يعن له دون حسيب او او رقيب، بيده السلطة والثروة وشهادات الحياة والموت، والدين والأعتاب المقدسة وكل شيء.

لكن إرادة الشعوب في الحرية والفكاك من سجن الدكتاتوريات وسطوة الحكم الفردي المنفلت من عقاله تظل أقوى من سلطة المال والنفط والقمع.

 مهما كانت الانتصارات الجزئية التي تسجلها، تظل الثورات المضادة في نهاية المطاف ثورات مضادة، تجدف ضد مسار التاريخ وارادة الشعوب.

 الثورة التونسية، ومهما قيل في تبخيسها والحط من شأنها هي الأفق المستقبلي للعرب. اما أنظمة البطش والاستبداد فبعض من بقايا ماض بائس مقيت زائل لا محالة، اليوم او غدا.

أضف تعليقك