• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانية واحدة

قبل أن ينتهي ما قدر لي من التعليم بالمدارس اعتراني الشيء الكثير من بطء الحركة والميل إلى الهدوء، والرغبة في البعد عن مواطن المرح والسرور، وأحببت العزلة وسلكت طريقًا صوفيًّا نظيفًا أذكر الله في حلقاته مع الذاكرين صباحًا ومساءً، وأتذاكر معهم بعض العلم، ثم ارتقى بي الحال وأصبحت أصلي بالناس إمامًا، وأخطبهم الجمعة حاثًّا على ترك العيوب والآثام والتحلي بالعزة والكرامة، ورسمت لنفسي أن أكون واعظًا ريفيًّا، ولكني كنت إلى ذلك الحين لا أتصور من الإسلام غير الصلاة والصوم والزكاة والحج ودعوة الناس إلى ترك عيوبهم.

ولم أكن أتصور مطلقًا أن الإسلام دين ودولة ومصحف وسيف وحكومة وقانون، بل كنت أتصوره كما ذكرت في حدود التصوف والعبادة، وكنت أعيب على مَن يتدخل في الأمور الاجتماعية والعمرانية، فضلاً عن السياسة التي تحدد اتجاه الناس وأغراضهم، وكنت لا أرى إلا النصح في خير رغبة المستمعين، وقد عزمت على الاستمرار في ذلك إلى أن ألقى الله.

حتى وصلتني دعوة الإخوان المسلمين التي دُعيت إليها، فدخلتها بسهولة من غير تردد؛ لأني كنت أحب كل شيء يقال عنه "إسلام"، وأخذت أتدرَّج فيها في المسئولية، وكل يوم تكشف لي عن شيء من جمالها وروعتها ودقة نظامها، فلا أستغرب ذلك منها، وكان كل ما عرض عليَّ فيها كان شيئًا كامنًا في نفسي لاصقًا بقلبي، ولكني لا أملك إبرازه أو التحدث عنه، حتى اكتمل هذا الجمال بمرور سبعة أعوام، وظهر لي الإسلام على حقيقته، وأصبحت أعرفه إجمالاً تمام المعرفة، بعد أن كنت أعيش في جانب من جوانبه (التصوف)، فإني الآن أطوف بأسواره، وألمس أعمدته وجدرانه، وأنتقل بين شرفاته وأبراجه، وأصيح على مآذنه ودرجاته.

وعلى العموم رأيت الإسلام قلعة شامخة ذات أسوار وعمد وأبراج ومآذن وحجرات وشرفات، بعد أن كنت أعرفه عبادةً وتوحيدًا فقط، وقد انفسح المجال أمامي أيضًا، فبعد أن كنت أعرف أن جهاد النفس هو غاية المطلوب، فإذا بالإسلام يطالبنا بجهاد غيرنا بعد أنفسنا وإقامة حدود ديننا، واختيار حكامنا، وتجهيز جيشنا، وحماية إخواننا، وفتح البلاد كلها بعد ذلك باسم ديننا؛ حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.

لقد كنت قبل دخول دعوة الإخوان أشاهد الناس حولي- كما هي حالهم الآن- يهتمون بدنياهم الخالية من الدين، يتسابقون إلى الجاه والكلمة النافذة، ويسعون إلى امتلاك القصور والمتاجر والديار الواسعة والمرأة الناعمة، وأشهد أني كنت قبل هذه الدعوة زاهدًا كل الزهد في هذه الأمور؛ لا لشيء إلا لأن قلبي كان لا يستسيغها، ويكره أن يزاحم الناس عليها وينفر منها نفورًا شديدًا وكنت أتحدث ببغضها للناس.

فلما جاءت دعوة الإخوان، ولبست رداءها، وجرت في عروقي أفكارها، أحببت الدار والديار والوظيفة والمتجر والكلمة النافذة والزوجة الصالحة.

وقد دفعتني الدعوة دفعًا إلى هذه الأشياء، وفرضت عليَّ امتلاكها، وأنارت لي طرق الحصول عليها، وأرشدتني إلى كيفية الانتفاع بها لمصلحة الإسلام والمسلمين، وقالت- في صراحة ووضوح-: إن الناس تطلب كل هذا للعاجلة، وعلينا أن نطلب كل هذا للآخرة، وأشارت إلى أن من يملك الدنيا يملك الآخرة وامتلاك الدنيا حراسة للدين وانتشار له وتمكين لسلطانه، قال تعالى: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ) (الحج: من الآية 41).

إذًا فلا بد لأتباع محمد صلى الله عليه وسلم من الزواج والبيع والشراء والكر والانتشار والكد والتعب والأمل والعمل، بشرط واحد، وهو أن يكون ذلك كله باسم الله ولمرضاته (وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)) (الليل).

أما هذا الزهد القاتل الذي كنت أتجه إليه قبل دعوة الإخوان فلا يرضاه الدين، كما أنه لا يرضى تمامًا أن تكون لك القصور والدور والحكم والسلطان والزوجة والأولاد بغير اسم الله وفي غير مرضاته، أو في سبيل تمتع شخصي، بل المرء وما ملكت يداه ملك لله، وأنا بهذا الاتجاه والفهم الجديد، صححت إسلامي، وحددت أغراضي، وليس تحديد الأغراض مجرد أقوال وادّعاء أعمال، وإنما هو اتجاه صحيح نحو الهدف المقصود يظهر في الأقوال والأفعال، ويلمح على قسمات الوجه وانفعال النفس، ويلبس صاحبه حلة الوقار وتاج أصحاب الدعوات، ودعائي للجميع: اللهم اربط على قلوبنا حتى آخر الشوط.

فشُكر الله أن وفقني في دعوة الإخوان على أن صحَّحت إسلامي، وأتضرع إليه جل جلاله أن يرزقنا العمل بجانب الفهم والإخلاص، والله أكبر ولله الحمد بجانب العمل، والرضا والقبول بجانب الإخلاص لجميع المسلمين.

---------

* مجلة "الإخوان المسلمين" الأسبوعية العدد 217 السنة السادسة 9 أكتوبر 1948م.

أضف تعليقك