بقلم: خليل العناني
لا يتوقف الجدل في مصر حول دور الدين في المجال العام، وحدود هذا الدور، ومن المسؤول عن تحديده: الدولة أم رجل الدين؟ وإذا كان ثمّة علاقة سببية بين طبيعة المناخ والسياق السياسي السائد ودرجة سخونة هذا الجدل، بحيث يزداد في السياقات الديمقراطية، عطفاً على مساحة الحرية التي تسمح للجميع بالخوض في جميع القضايا، خصوصاً الساخنة وغير المحسومة.
المفارقة في أن يثار هذا الجدل الآن، في وقتٍ ترزح فيه مصر تحت نظام حكم سلطوي، لا يسمح بأية مساحة أو مجال للرأي الآخر والاختلاف. ولعل هذا ما يقبع في خلفية ما يبدو أنه خلاف مكتوم بين الجنرال عبد الفتاح السيسي وشيخ الأزهر، أحمد الطيب. وهو الخلاف الذي كلما خبا يعود إلى السطح مع مزيد من التأزم والتوتر الذي تتلقفه الأبواق الإعلامية، وتستخدمه للهجوم على الأزهر وشيخه.
الحلقة الجديدة للخلاف، أو بالأحرى الاختلاف، بين الشيخ والجنرال، جاءت على خلفية الحديث حول موقع السنة النبوية، باعتبارها جزءاً من المرجعية الدينية للمسلمين خلف القرآن الكريم. وعلى الرغم مما قد يبدو ظاهرياً، كأنه خلاف ثيولوجي حول موقع السنة وحجمها في التشريع الإسلامي، وإصدار الفتاوى والأحكام، إلا أن الخلاف، هذه المرة، تفوح منه رائحة السياسة بوضوح، فثمّة محاولات متكررة من نظام ما بعد 3 يوليو/ تموز 2013، ليس فقط للسيطرة على المؤسسة الدينية، وهو متحقّق بالفعل منذ صدور القانون 103 لعام 1961، والخاص بإعادة تنظيم الأزهر، والهيئات التي يشملها (هكذا اسمه)، ولكن أيضاً التدخل في تحديد رؤيتها وخطابها الديني بشكل صارخ، بحيث تتحوّل مجرد تابع ومنفّذ لإرادة رئيس الدولة ورؤيته ورغبته، حتى وإن كانت رؤية سطحية، ولا تستند إلى أية معرفة دينية أو فقهية! ويزداد الأمر صعوبةً، إذا كان رئيس الدولة يشعر بأنه في مهمة وطنية لإنقاذ الدين وتجديده، ويتحدث وكأنه الأكثر علماً وفهماً ومعرفة من رجال الدين الذين ينتقدهم، بل وكأنه وصيٌّ أو مؤتمنٌ على إنجاز هذه المهمة!
على مدار السنوات الأربع الماضية، لم تخل العلاقة بين الشيخ والجنرال من توتر يخفُت أحياناً ويظهر أحياناً أخرى. وهو الخلاف الذي لم يقو الجنرال على كتمانه، وعبّر عنه، في أحد لقاءاته، بلغةٍ ارتجاليةٍ لا تخلو من حنقٍ، بقوله موجهاً كلامه إلى شيخ الأزهر، قائلاً "لقد تعبتني يا فضيلة الإمام". ويبدو بوضوح أن الجنرال لا يشعر بالارتياح تجاه شيخ الأزهر، لأسباب عديدة، ليس أقلها أن الشيخ يسعى إلى الحفاظ على تقاليد مؤسسته، وحراستها الدين، انطلاقاً من فهم وقناعة راسخة بأن الأزهر يمثل القلعة الأخيرة للحفاظ على التقليد السني للإسلام. لذا لا يتوقف الأزهر ورجاله عن التصدّي لأية محاولة تخرج عن قراءته وفهمه للنص الديني، أو تحاول تقديم قراءة مغايرة له. والأمثلة كثيرة، جديدها مسألة المواريث التي احتلت مساحة مهمة من الجدل، على خلفية تقنين تونس المساواة بين الرجل والمرأة في الإرث. وكانت القضية أخيراً التي تصدّى لها شيخ الأزهر تتعلق بالدعوى التي أشار إليها السيسي ووزير أوقافه، فيما يخص "تجديد السنة النبوية"، وهو أمر تتبناه الدولة منذ تولّى السيسي السلطة قبل أربعة أعوام، وتفرد مساحات معتبرة للمطالبين بذلك، بذريعة ضعف بعض الأحاديث النبوية وعدم تماشيها مع العصر.
لا يقبل الجنرال أن يكون أحد رجال الدولة، وهو هنا شيخ الأزهر، خارجاً عن سيطرته وإرادته، أو لا يتبنّى رؤيته للمسألة الدينية. وقد ساهم الوضع القانوني لمنصب شيخ الأزهر، والذي لا يتيح لرئيس الدولة إقالته، ما أكسبه حصانة قانونية ورمزية، في توتير العلاقة بين الجنرال والشيخ. فضلاً عن أن شيخ الأزهر الحالي يكاد يكون الوحيد الذي ينتمي لعهد ما قبل السيسي، بل وما قبل الثورة، فقد تم تعيينه في منصبه في مارس/ آذار 2012. لذا كان البديل هو زيادة الضغط على الشيخ ومؤسسته ورجاله. واتبع في ذلك وسائل عديدة، منها النقد الصريح، وبالتلميح، فضلاً عن إعطاء وزير الأوقاف، محمد مختار جمعة، صلاحياتٍ وسلطاتٍ واسعة على إدارة الشأن الديني في مصر، سواء بالسيطرة على أئمة المساجد، وتوحيد خطبة الجمعة، أو بالدعم السياسي والمالي للوزارة. فضلاً عن إطلاق الأذرع الإعلامية للجنرال حملات تشويه ونقد عنيف لمؤسسة الأزهر، واتهامها بالمسؤولية عن مصائب الدنيا.
بكلمات أخرى، يريد السيسي وضع السياسة الدينية في مصر وتوجيهها حسب رؤيته، ويعتمد في ذلك أدوات وأذرعاً عديدة، تتراوح من الإعلام والبرلمان إلى توظيف رجال دين واستغلال الطامحين والراغبين منهم من أجل زيادة الضغط على شيخ الأزهر. وهي قضية قديمة جديدة، يتم استحضارها حسب السياقات، ووفق درجة الخلاف بشأن مساحة الدين في المجال العام. والسياق الآن هو محاولة نظام ما بعد "3 يوليو" إحكام سيطرته على ما قد يبدو أنه خارج نطاق هذه السيطرة، وهو الأزهر. وتبدو المفارقة أكثر وضوحاً، حين تقوم الدولة، أو من يمثلها من محامين ومواطنين شرفاء، بحسب توصيف الإعلام السلطوي لهم، باستخدام مسألة الحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بديلاً عن رجال الدين، على نحو ما حدث أخيراً مع فنانة خرجت بلباسها عما اعتبره هؤلاء "فعلاً فاضحاً يشجع على الفسق والفجور وإغراء القصّر ونشر الرذيلة".
أضف تعليقك