بقلم: الدكتور سيف الدين عبد الفتاح
تتجمع في معمل الاستبداد مجموعة من الثقافات السلبية والدنيئة، فالمستبد لا يرى على صفحة الحياة ومجال السياسة إلا نفسه، كل شيء هالك إلا نفسه وكرسيه، ومن ثم، فإنه قد يضحي بكل شيء من أجل أن يبقى في المشهد وعلى كرسيه. كان مقتل الصحافي السعودي، جمال خاشقجي، في قنصلية بلاده كاشفا فاضحا، فارقا فاصلا، في أمور كثيرة تتعلق بطبعة الاستبداد العربي الذي يعبر في حقيقة أمره عن “طبعة فاجرة فجّة”؛ تجمع بين ثقافات دنيئة. ومن هنا، يمكن رؤية كل تلك التكهنات التي حاولت التنبؤ، بشكل أو بآخر، حول إلغاء جولات أو تأجيل مباحثات أو مشاركة في قمة العشرين، باعتبار أن ذلك ما تقتضيه الرشادة والتفكير السديد، حتى لو كان الأمر يتعلق بالاستبداد العتيد، إلا أن عالم الرشد في المستبدين العرب قد ولى، وأن التفكير العاقل قد انحدر إلى أسفل سافلين، فهو يصرّ على القيام بجولاته وصولاته في عملية استعراضية، لتأكيد رسم صورةٍ تتعلق بقدرته وثقته واستمراريته، وكأن كل ما حكي عن تورّطه الشنيع والرهيب في عملية مقتل خاشقجي ليس له من أثر، ولا يترك عليه أية ضغوط. المستبد في طبعتنا تلك لا يقيم لذلك وزنا، ولا يحرّك له جفنا.
أصر المستبد القاتل، أو المتواطئ على قتل مواطن بريء، لم يكن يملك إلا قلمه يكتب كلاما معتدلا ناصحا مسدّدا، يؤثر أن يعبر أنه يحب بلده، ويتمنى له الرقي والتقدم، ولا يسمي نفسه معارضا، إلا أن الأمر لم يكن يحمل إلا رؤية المستبد لنفسه، وقد تملكه تضخّمه وكبرياؤه، وقد تجبر بطغيانه وتمدد سلطانه، أصر على جولته لتبييض وجهه. ذهب إلى حلفائه أولا وداعميه، حتى يتدرب على المواجهة الزائفة، فهم يمارسون الابتسامة العريضة في وجهه، ويخططون لاستقباله استقبالا حافلا، ليأتي هو وصحبه في محاولةٍ لإبراز ثقته وتماسكه، حتى في بعض هذه البلاد، مثل مصر، واجهه بعض الصحافيين، وكذلك بعض من القوى السياسية، وصدعوا في وجهه “لا أهلا ولا مرحبا”، وأسرف آخرون في صناعة استقباله، فجمع بعض البسطاء ومزيدا من البلطجية في ميدان التحرير الذي لا يقربه أحد، لكنه فُتح لهؤلاء يحملون أعلام السعودية الكبيرة، وفي اليد الأخرى أعلاما مصرية صغيرة. هؤلاء على ما اعتاد المستبدون في مصر من تعبئة مثل هذه المقابلات المأجورة التي تخرج عند الطلب، مثلت، للأسف الشديد، أسوأ دعم وتأييد. أخطر من ذلك أنه في بلاد تونس وموريتانيا واجهه هؤلاء بمظاهراتٍ غير مرحبة تصفه بالقاتل، وفي بلاد الجزائر لم يكن الأمر أفضل حالا، بدت هذه الجولة في محاولةٍ منه لتبيض وجهه، إلا أن الوجه المكشوف انفضح في مواجهةٍ مع الشعوب، ومن حيث أراد بياض وجهه وتبييضه، فازداد وجهه اسودادا.
وفي محطته في قمة العشرين، أراد أن يلتقط الصور، وأن يتسول المصافحات واللقاءات، فهذا يقابله ثواني معدودة، وهذا يصافحه ضاحكا، إلا أن ذلك لم يكن إلا في عالم السياسة، شخصٌ يتسول المصافحة علامة على الوجود، وزعماء يتحاشونه، لما ارتكب وافتضح فيه أمره، وانكشاف المستور، ومن شعوبٍ ترفضه في تلك الدول التي زارها. وفي الدول الغربية يتظاهرون ضده، وقادة يقابلونه تفضلا وطمعا في أمواله تحت عنوان “الرشوة السياسية“. ملعون ذلك الراشي والمرتشي، ملعون المستبد ومن يدعمه، ملعون هؤلاء الذين يبيعون له اللقطة والصورة لتمرير فعلته، وجريمته الشنعاء في حق الإنسان والإنسانية، ملعون كل هؤلاء في كل كتاب، ولكن كتاب الاستبداد يحاول أن يجعل من صاحبه هو ذلك المتجاهل والمستخف في ثوبٍ يسمّيه الثقة، ممارسا أقصى أنواع الفجر والفجاجة.
لم يقف الأمر عند هذا الحد، أراد أن يتصدّر الصورة، فتجاهله المصورون، وأغفلته الصورة. أراد أن يبرز في الصورة منذ بدايتها، فهرول إليها مسرعا، وذهب إليها متقدّما، يقف على الطرف، ليمر عليه كل من يلتحق متسولا ومتوقعا مصافحة. تجاهله الجميع، ولم يصافحه أحد. كانت الصورة تؤكد أنه المنزوي المنبوذ، حتى لدى هؤلاء الذين أرادوا أن يحسّنوا صورته وطمعوا في ثروته، كل منهم يفعل ما يفعل، وهو الذي يتهرّب من ذلك المنبوذ. ومن الأسف حقا أن تخرج صحفٌ تهلل لمصافحة الرئيس الروسي، بوتين، له التي كانت هزليةً، طبل لها المطبلون في بلاد العرب، من داعميه وأنصاره، فكان ذلك علامةً على تسوّل هذا القاتل أو المتواطئ فيه وعليه، من نظرة من هنا أو لمصافحة من هناك. وبات الأمر يعبر، في النهاية، عن صورة على عكس ما خطط له، حتى أمواله لم تكف لشراء مصافحته هؤلاء، أو البروز في الصورة مع الزعماء.
أخطر ما في الأمر إدمان المستبد ثقافة الإنكار والاستهتار، وإنها شعبةٌ من سلوك الاستخفاف وحال الاستهبال، إنه يتحدّث أن الجريمة لم تقع، فما هي تلك الجريمة التي يتحدثون عنها؟ كان ذلك مفاجأة للجميع! فالأمر أمر استخفاف بالعقول، حينما يقول ما يقول، فتحول ذلك إلى وبالٍ عليه، فاستنفر الرئيس أردوغان للرد على هذا الاستخفاف الشديد. وتجاهل الآخرون هذا التصريح المستخِف، إلا أن يكون علامة جنون، كما قال أحد هؤلاء من أعضاء الكونغرس في الولايات المتحدة. وبعد كلمة الإنكار، أتت شهادة مديرة وكالة الاستخبارات (سي آي إيه)، جينا هاسبل، في جمع محدود من الأعضاء، بعد شهادة مدفوعة الأجر من وزيري الخارجية والدفاع، مايك بومبيو وجيمس ماتيس، في محاولة لإسناد ترامب دفاعه عن بن سلمان، فاتهمهم بعضهم بالكذب ومحاولة التضليل. وكانت الإدانة فاضحة جامعة من معظم الذين حضروا الشهادة المحدودة لمديرة المخابرات، لتؤكد أنه المتواطئ القاتل، وسخر بعضهم من مطالبة بعض الداعمين لبن سلمان بالدليل الدامغ، فرد عليه أحدهم بالسخرية البالغة، معبرا عن ذلك: ليس هناك أكثر من “المنشار الدامغ”.
لم يكن هذا تعبيرا فحسب عن ثقافة الإنكار الاعتيادية، كحالة نفسية شبه مرضية، لكن هذا أشار في الحقيقة إلى معنىً إضافي، في وصف المستبد في بلاد العرب في طبعته الجديدة. لم يعد المستبد يمارس فقط ثقافة إنكار، بل عبّر عن مجمع الفجر والفجاجة والتناحة، ثقافة استبداد قرينة الاستخفاف. لم يعد يقبل إلا أن يفعل ما يريد ويدعمه، كل أحد وما يريد، لا يجرؤ كائن من كان على النقد أو الكلام. إنه التطبيل والنفاق، وذلك يورّث شخصيةً تعاني من عدم إحساس وتبلد تجاه الواقع، وانفصال عن الدنيا والعالم. لا يقبل المستبد إلا جحافل المنافقين الذين يهوّنون من أثر فعله، حتى ولو كان جريمة قتل، ويتحدّثون باستخفافٍ عن هذا الاهتمام الكبير بفردٍ لا يعتبرونه ذا وزن، بل يتهمه بعضهم ويصفه بالحقير. ويبدو قاموس النفاق مجاهرا بأسئلة: لماذا هذا بالذات، أو بالعامية المصرية “اشمعنى”؟ إنها حال المستبد حينما يسعى إلى كسب الوقت، مشفوعا سلوكه بثقافة التسول والتبلد في الإحساس والبرود الشديد، معتقدا، مع مرور الوقت، لعل الجميع ينسى، فهو المتأله الذي لا يُسأل عما يفعل. ولكن هيهات هيهات، ما زال عند بعضهم بعض ضمير، يتحدثون عن شناعة فعله في الإعلام، مطالبين بالتحقيق، وباتهام بن سلمان، ولكنه يعتقد أن بجاحته وتبلدّه وتناحته عين الثقة، وما هي بثقة. إنها مع افتضاح أمره مجمع التناحة في معمل الاستبداد.
أضف تعليقك