بقلم: وائل قنديل
لم يكن ما جرى في باريس، طوال الأسبوع الماضي، ثورة، حتى نتمدد فوق الأرائك، ونستدعي ثورات الربيع العربي من الذاكرة القريبة، ونعقد المقارنات، ونضع النهاية السعيدة، ثم نذهب للنوم مرتاحين.
على مدار أيام الغضب الفرنسي، لم تتوقف عمليات الاستدعاء والإحالة، للربط بين حدثين، ومحاولة الخلوص إلى نتيجة سهلةٍ وبسيطة، مؤداها أن الفرنسيين فعلوا كما ثوار الربيع العربي، وأن على الحالمين العرب باستكمال ثوراتهم أن يستلهموا التجربة الفرنسية في الشانزليزيه، وامتداداتها في بروكسل.
هل تشبه ثورة الخامس والعشرين من يناير المصرية،على سبيل المثال، تظاهرات الوقود في باريس؟ إن كان لابد من عقد المقارنات، فإن الأقرب إلى أحداث باريس في الذاكرة المصرية هي انتفاضة الخبز في 18 - 19 يناير/ كانون ثاني 1977، أما ثورة يناير الكبرى في 2011، فإننا نظلمها كثيرًا، ونخدش نقاء معانيها ومنطلقاتها، حين نساوي بينها وبين ما جرى في فرنسا، على أن ذلك لا يعني بالطبع التقليل أو التحقير من انتفاضة الغضب الشعبي الفرنسية، احتجاجًا على قراراتٍ حكوميةٍ تمس أمنهم الاجتماعي وتصعب عليهم حياتهم.
لم تطالب احتجاجات باريس بتغيير النظام السياسي، ولم تخرج جوعًا للديمقراطية والحرية، فالشاهد أن لدي الشعب الفرنسي تخمة من الحريات الشخصية والسياسية، وحرية التعبير والإبداع، وإنما خرجت هذه الفورة من الغضب احتجاجًا على أوضاع اقتصادية، قد تترتب على قراراتٍ حكوميةٍ بزيادة الضرائب على المحروقات.
وعلى ذلك، انتهى كل شيء، وعادت الحياة إلى هدوئها الباريسي، مع إعلان الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، المنحاز جدًا للأثرياء، والمنحاز تمامًا للأثرياء جدًا، على حد تعبير سلفه فرانسوا هولاند، التراجع عن قرار زيادة الضريبة، وكأن شيئًا لم يكن.
أما في حال الثورة المصرية، فإنها بدأت بانتفاضة جوعٍ إلى الكرامة الإنسانية والحرية وحقوق الإنسان، كما هو مثبتٌ في أدبياتها، إذ انطلقت من فاجعة مقتل الشاب خالد سعيد، تعذيبًا على أيدي قوات الشرطة، وحين تطوّرت من انتفاضةٍ إلى ثورة، كان هتافها الأول "تغيير حرية عدالة اجتماعية". ومنذ صباحها الباكر، رفعت في وجه حسني مبارك شعار "ارحل"، ولاحقًا دخل "العيش" أو الخبز حلبة الهتافات والشعارات، إذ اتسعت دائرة الأحلام، لتستوعب أوجاعًا مطلبية، تخص فئات المجتمع كافة، من عماله إلى فلاحيه وموظفيه وطلابه.
وطوال أيام التظاهر، كان النظام يحاول أن يسكت غضب المصريين بتقديم تنازلات وإغراءات اقتصادية واجتماعية، وحتى سياسية، إلا أن الغاية الأسمى بقيت رحيل النظام والدخول في عصر جديد، يلتحق به المصريون، بقيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، قبل الخبز والغلاء وبقية الاحتياجات المادية المباشرة، إدراكًا من الجميع أن من شأن الوصول إلى الحالة الديمقراطية أن يكون بابًا آمنًا يؤدي، بالتبعية، إلى الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي، وامتلاك آلية التدخل الشعبي، للتصدي لأية مظالم أو أعباء، اقتصادية واجتماعية.
مرة أخرى، لا يعني ما سبق تسفيهًا للتحرك الجماهيري من أخل الخبز. وكما قلت سابقًا إن من الخطأ الجسيم اعتبار الثورات نوعًا من فعلٍ ثقافيٍ محض، ينطلق من تنظيراتٍ فكريةٍ ضخمة، ولا يعقل أن نصادر حق البشر في التعبير عن آلام الجوع والفقر والتأزم المعيشي، بحجة أن الثورة لا بد لها من شعاراتٍ أكثر تقعيراً، تتحدّث عن القيم الكلية المجرّدة، إذ لا تعارض أبداً بين مطلبي الخبز والحرية، أو بين الاستجابة لهتاف البطون وتلبية نداء العقول، فمن يطلب الخبز، بالضرورة يسعى إلى الحرية، وليس صحيحاً أن الجوعى لا يطالبون بالحرية والعدل والكرامة.
لكن الحاصل فعلًا أن الفرنسيين حققوا، منذ عقود طويلة، منجزهم الديمقراطي والثقافي، ووصلوا إلى امتلاك فائضٍ من القيم الديمقراطية والحريات، من خلاله وحده، قرّروا الاحتجاج، حد العنف والشغب، ضد إجراءات اقتصادية، وهم مطمئنون إلى أن أحدًا لن يتهمهم بالخيانة والعمالة لجهاتٍ أجنبية، ولن يشكك في وطنيتهم وانتمائهم لبلدهم.
كانت ثورة المصريين حلمًا بالربيع، فيما لا تعدو احتجاجات الفرنسيين كونها سعيًا إلى بعض الدفء في الشتاء.
أضف تعليقك