ربَّى القرآن الكريم المؤمنين على العمل الدءوب دون كللٍ أو مللٍ في سبيل نُصرة الحق، وإرضاء صاحب الحق مهما تعرضوا من بلاء وإيذاء.
وتنوعت الألفاظ في القرآن التي تعبر عن هذا المعنى، بـ(قُلْ) التلقينية، والتي تعني بلغ عن رب العزة ما يأمرك به، فإنه أعلم بعباده، ودعوته، كما ورد عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، قَالَ: سَأَلْتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ، عَنِ الْمُعَوِّذَتَيْنِ فَقَالَ: "سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ قِيلَ لِي فَقُلْتُ فَنَحْنُ نَقُولُ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم" (1).
ومفعول القول محذوف وتقديره قيل لي قل أو قيل لي هذا اللفظ فقلت كما قيل لي، وتحت هذا السر أن النبي صلى الله عليه وسلم ليس له في القرآن إلا بلاغه لا أنه هو أنشأه من قبل نفسه بل هو المبلغ له عن الله، وقد قال الله له "قُلْ" فكان يقتضي البلاغ التام أن يقول قل أعوذ برب الفلق كما قال الله (2).
ومن الألفاظ التي بلغها الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه صاحب هذه الدعوة للمنافقين الذين يتربصون بالمؤمنين الدوائر: (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ (52)) (التوبة).
التَّرَبُّصُ: التَّمَهُّلُ فِي انْتِظَارِ مَا يُرْجَى أَوْ يُتَمَنَّى وُقُوعُهُ (3).
أي: قل للمنافقين الذين يتربصون بكم الدوائر: أي شيء تربصون بنا؟ فإنكم لا تربصون بنا إلا أمرًا فيه غاية نفعنا، وهو إحدى الحسنيين، إما الظفر بالأعداء والنصر عليهم ونيل الثواب الأخروي والدنيوي. وإما الشهادة التي هي من أعلى درجات الخلق، وأرفع المنازل عند اللّه.
وأما تربصنا بكم- يا معشر المنافقين- فنحن نتربص بكم، أن يصيبكم اللّه بعذابٍ من عنده، لا سببَ لنا فيه، أو بأيدينا، بأن يُسلطنا عليكم فنقتلكم. (فَتَرَبَّصُوا) بنا الخير (إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ) بكم الشر (4).
قال ابن عباس– رضي الله عنهما-: إنّ الحسنيين الغنيمة والشهادة. وقيل: الأجر والغنيمة.
قيل: الشهادة والمغفرة(5)، وفي الحديث: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: تَكَفَّلَ اللَّهُ لِمَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِهِ لاَ يُخْرِجُهُ إِلاَّ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ وَتَصْدِيقُ كَلِمَاتِهِ بِأَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، أَوْ يَرْجِعَهُ إِلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ مَعَ مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ، أَوْ غَنِيمَةٍ(6)
فماذا يتربص المنافقون بالمؤمنين؟
إنها الحسنى على كل حال. النصر الذي تعلو به كلمة اللّه، فهو جزاؤهم في هذه الأرض، أو الشهادة في سبيل الحق عُلْيَا الدرجات عند اللّه.
وماذا يتربص المؤمنون بالمنافقين؟
إنه عذاب اللّه يأخذهم كما أخذ من قبلهم من المكذبين أو ببطش المؤمنين بهم كما وقع من قبل للمشركين، والعاقبة معروفة.. والعاقبة للمؤمنين (7).
وإننا لنشاهد في هذه الأيام تربصًا بالناهضين بالدعوة إلى تطبيق الأحكام الشرعية، العاملين من أجل بعث الأمة من جديد على منهاج النبوة، من كل صاحب فكر مناهض للإسلام وأهله، يريد ألا يظهر دين الله، ويبغي الحياة عوجًا إرواءً لأهوائه وشهواته.
والله يلقن نبيه- ومن معه من المؤمنين على طريق الحق إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها-، أن يبلغوا هؤلاء ومَن سار سيرهم على وجه التهديد: (وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ (122)) (هود) أي: اعْمَلُوا عَلَى مَا فِي مَكَانَتِكُمْ وَتَمَكُّنِكُمْ وَاسْتِطَاعَتِكُمْ مِنْ مُقَاوَمَةِ الدَّعْوَةِ وَإِيذَاءِ الدَّاعِي وَالْمُسْتَجِيبِينَ لَهُ، فَسَوْفَ تَلْقَوْنَ جَزَاءَ مَا تَعْمَلُونَ مِنَ الْعِقَابِ وَالْخِذْلَانِ- إِنَّا عَامِلُونَ- عَلَى مَكَانَتِنَا مِنَ الثَّبَاتِ عَلَى الدَّعْوَةِ وَتَنْفِيذِ أَمْرِ اللهِ وَطَاعَتِهِ- وَانْتَظِرُوا- بِنَا مَا تَتَمَنَّوْنَ لَنَا مِنْ انْتِهَاءِ أَمْرِنَا بِالْمَوْتِ أَوْ غَيْرِهِ مِمَّا تَتَحَدَّثُونَ بِهِ،- إِنَّا مُنْتَظِرُونَ- مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا مِنَ النَّصْرِ وَظُهُورِ هَذَا الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ، وَإِتْمَامِ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ، وَعُقَابِ الْمُعَانِدِينَ مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ (8)، وقيل: اعملوا في هلاكي على إمكانكم، وانتظروا بنا الدوائر، إنا منتظرون أن ينزل بكم نحو ما اقتصّ اللّه من النقم النازلة بأشباهكم (9).
فالمؤمنون ينتظرون ويرتقبون من الله الخير في الدنيا والآخرة، ويرتقبون بأعداء الله الهزيمة في الدنيا والعذاب في الآخرة كما قال تعالى (فَارْتَقِبْ) أي: انتظر ما وعدك ربك من الخير والنصر (إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ) ما يحل بهم من العذاب وفرق بين الارتقابين: رسول الله وأتباعه يرتقبون الخير في الدنيا والآخرة، وضدهم يرتقبون الشر في الدنيا والآخرة (10)، فارتقب النصرَ مِنْ رَبِّك إنهم مُرْتَقِبون بك ما يتمنَّوْنَه من الدوائرِ والغوائلِ ولن يَضِيْرَك ذلك (11).
المستنبط من الآيات:
1- ضرورة "العمل الدءوب"، والذي نعني به: العمل المتصل دون انقطاع؛ فحلقاته تكاد تسلِّم بعضها لبعض، وعد الالتفات إلى الناعقين.
2- أن انتظار وترقب الحُسْنى من الله عز وجل يكون ملازمًا ومقترنًا بالعمل الدءوب لا ينفكان ولا ينفصلان، وهذا ما يحبه الله، فنصر الله عز وجل لا يتنزل على الكسالى القابعين في بيوتهم ينتظرون هلاك المفسدين، دون جهد من المؤمنين، فسنن الله لا تتحقق للمؤمنين إلا بعد بذل أقصى ما في الطاقة والوسع من الجهد كما قال تعالى: (هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ) (الأنفال: من الآية 62).
3- إن المتقاعس عن النهوض بتكاليف الإيمان، يعيش ذليلاً لا يؤبه له، فإن للذل ضريبةً كما أن للكرامة ضريبة، وإن ضريبة الذل لأفدح في كثيرٍ من الأحايين، وإن بعض النفوس الضعيفة ليخيل إليها أن للكرامة ضريبة باهظة لا تُطاق، فتختار الذل والمهانة هربًا من هذه التكاليف الثقال، فتعيش عيشةً تافهةً رخيصة، مفزعة قلقة، تخاف من ظلها، وتفرق من صداها، يحسبون كل صيحة عليهم، ولتجدنهم أحرص الناس على حياة.. هؤلاء الأذلاء يؤدون ضريبة أفدح من تكاليف الكرامة، إنهم يؤدون ضريبة الذل كاملة، يؤدونها من نفوسهم، ويؤدونها من أقدارهم، ويؤدونها من سمعتهم، ويؤدونها من اطمئنانهم، وكثيرًا ما يؤدونها من دمائهم وأموالهم وهم لا يشعرون.. اللهم اجعلنا من عباد المُخْلَصين.
-------------
* الهوامش:
1- صحيح البخاري: بدء الوحي، (4976).
2- التفسير القيم: 2/ 260.
3- المنار:10/ 415.
4- السعدي: 339.
5- البحر المحيط: 5/ 433.
6- صحيح مسلم: باب فَضْلِ الْجِهَادِ وَالْخُرُوجِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ: (4969).
7- الظلال: 3/ 1665.
8- المنار: 12/ 163.
9- البحر المحيط: 6/ 229.
10- السعدي: 774
11- الدر المصون: 4779
أضف تعليقك