• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانيتين

الهمة العالية هي القوة المعنوية التي تجعل صاحبها يطلب المعالي، ويسعي للقمم، ويتحدي الصعاب، ويستهين بالشدائد، ويقتحم الأخطار، وتجعله كذلك يرفض الركون، ويأبي الاستسلام، ويترفع عن الدنايا، ويأنف من الضعف و الهوان، ولا يعرف شيئاً اسمه المستحيل، فالهمة العالية  طاقة خلاقة، ونفس تواقة، وحركة سباقة ... وهي عقل ملحاح وآمال فساح، وعمل دائب في المساء وفي الصباح. وعلو الهمة من الإيمان "والتقىّ حقاً هو الرجل الذى أوتى من علو الهمة وطول الباع ما يمكنه من تملك الدنيا... ثم هو قد أوتى إلى جانب ذلك من صدق اليقين واحترام الحق والنزوع إلى الكمال ما يجعله يزدرى ذلك كله فى ساعة فداء وتضحية"(محمدالغزالي، تأملات في الدين والحياة).
 
والهمة العالية خلق المجاهدين، وعلي رأسهم الرسل والأنبياء رضوان الله عليهم، وقد بلغت همم أولي العزم من الرسل أعلي ذروة بلغتها الإنسانية في تاريخها كله، فهذا إبراهيم عليه السلام حملته همته العالية علي الوقوف وحده في وجه الأخطار التي تنخلع منها قلوب الأبطال؛ والاستهانة بالتهديد والوعيد من الجبابرة المتسلطين، وعدم الخوف من النار المضطرمة التي ألقي فيها بالمنجنيق، وقد وقف هذه المواقف العالية وهو ما يزال فتي في مقتبل عمره وبدايات شبابه، فلم يكتفي بالبلاغ حتي قام إلي الأصنام فحطمها، ولم ينسحب أبداً من مواجهة الباطل إيثاراً للسلامة، ولم يكترث أبداً لما  يمكن أن يصيبه من أذي ما دام في سبيل الله﴿فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ * قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ * قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ * فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ * قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ * قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ (الأنبياء: 58 - 69).
 
والعجيب في سيرة هذا النبي الكريم الذي وصفه الله أنه أمة وحده أن هذه الهمة العالية لم تنل منها الأيام والأحداث، وظلت هكذا متوهجة علي كر الليالي وتعاقب الأيام، وبقيت معه ملازمة له لا تنفك عنه ولا ينفك عنها حتي كبر سنه ورق عظمه فحملته هذه الهمة العالية أن يتسامي فوق مشاعر الأبوة ومشاعر الحاجة إلي قوة الابن ومعونته في هذا السن؛ فيستجيب لله تعالي في الأمر بذبح ابنه  الشاب الحبيب  إسماعيل، ورغم أن هذا الأمر كان برؤيا منام وهي أقل درجات الوحي فقد كانت استجابة إبراهيم عليه السلام نفس استجابته للوحي المباشر، وبنفس القوة والحماس﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾ (الصافات: 102 - 107).
 
والدرس البليغ من همة إبراهيم عليه السلام في أول عمره وآخره أن الهمة العالية ليست وقفاً علي مرحلة دون أخري، ولا ترتبط بالقوة والشباب وحده، فالهمة العالية تجعل الكهل يعيش بروح الشباب وحيوتهم وحماسهم، وسقوط الهمة يصبغ الشباب بصفرة الموت،  ويلف الشباب في أكفان الموتي. بل إن الهمة العالية تجعل صاحب العذر ينافس الأصحاء بل ويسابقهم فيسبقهم سبقاً بعيداً ويتفوق عليهم تفوقاً منقطع النظير، وهل كان عمرو بن الجموح رضي الله عنه إلا معاقاً شديد العرج وقد قبل الله عذره عن الجهاد، ولكن همته أبت عليه إلا المشاركة في مواجهة الباطل، وأبت عليه أن ينتظر حتي يأكل تمرات في يده، وانطلق لا يلوي علي شيء حتي أمسي  شهيداً في الجنة.
 
وقد حفظ لنا تاريخ الحركة الإسلامية في القرن العشرين سير قادة عظام أصبحوا رموزاً للجهاد والتضحية علي مر العصور، وعلي رأس هؤلاء الشيخ أحمد ياسين شيخ المجاهدين الذي حملته همته العالية علي قهر الإعاقة، واستفرغ وسعه في تربية جيل من المجاهدين، وظل دائب الحركة حتي ضاق الاحتلال الصهيوني بحركته فاستهدفته طائرات الأباتشي الإسرائيلية بصواريخها الموجهة بعد خروجه من المسجد في صلاة الفجر، فكانت بقايا كرسية المتحرك الذي تطاير مع أشلائه حجة علي الأصحاء وأهل القوة والعافية، وصار رمزاً للجهاد الإسلامي بل لكل الأحرار في دنيا الناس إلي يوم يبعثون. ولم يكن حالة فريدة في الجهاد الفلسطيني فقد سار علي نهجه الشهيد أحمد جرار علي كرسيه المتحرك، وفي مسيرات العودة الأخيرة شاهد الناس علي شاشات التلفاز الشيخ مبتور الساقين علي كرسيه المتحرك وهو يرجم الاحتلال بمقلاعه ويواجه رصاصهم بصدره العاري حتي لقي ربه شهيداً.
 

 

أضف تعليقك