• الصلاة القادمة

 
news Image
منذ ثانية واحدة

بقلم قطب العربي

يصف الكاثوليك البابا فرنسيس بـ"بابا الشعب"؛ تقديرا لجولاته المكوكية لتفقد أوضاع الكاثوليك عبر العالم، ووصف الساسة المعادون للمشروع الصهيوني بابا الأقباط الراحل الأنبا شنودة الثالث بـ"بابا العرب"؛ تقديرا لرفضه للتطبيع مع إسرائيل، ورفضه السماح للمسيحيين بزيارة القدس، ويوصف البابا الحالي تواضروس بـ"بابا العسكر"، حيث كان ولا يزال أكبر داعم للانقلاب العسكري على أول حكم مدني في مصر، بعد ستين عاما من الحكم العسكري، وبعد أعظم ثورة للشعب المصري في 25 يناير 2011.

بابا العسكر الذي احتل موقعا بارزا في مشهد الانقلاب يوم 3 تموز/ يوليو، بجوار عبد الفتاح السيسي وبقية الجنرالات وأشباه الجنرالات، والذي حشد المسيحيين للخروج في جمعة تفويض السيسي لقتل المصريين، والذي حشدهم مجددا لتمرير الدستور بكلمته الشهيرة "نعم تجلب النِعم"، وهو الدستور الذي تجري الاستعدادات لتعديله لتمديد ولاية السيسي، ويقوم البابا مجددا بدوره في دعم السلطة العسكرية، ويعلن أنه لا يمانع في التعديل بدعوى أن الدستور من صنع بشر.. هذا البابا نفسه هو الذي وصف في حوارات عديدة له عام حكم مرسي بأنه "سنة سوداء وكبيسة ومظلمة.. الخ".

مرة أخرى، يضع البابا تواضروس الكنيسة وشعبها في مواجهة الشعب المصري الرافض للسيسي، والرافض لتعديل الدستور لتمديد ولايته، والمتشوق لحكم مدني يحصل خلاله على حقوقه بشكل طبيعي، وليس عبر صفقات بين الكنيسة ورأس السلطة، وكأنها مِنح حكومية ومحض مكافآت ثمنا لمواقف معينة يطلبها النظام، أو تقدمها الكنيسة من تلقاء نفسها.

يحضرنا هنا أن كلام البابا تواضروس الذي تحدث فيه عن السنة السوداء لحكم مرسي، والذي أيد فيه تعديل الدستور، وتطوع أيضا لدعم التوجه الرسمي المتنامي حول تمرير المساواة في المواريث بين الرجل والمرأة، على غرار ما حدث في تونس، واكب صدور قرار جديد من لجنة تقنين أوضاع الكنائس التابعة لرئاسة الوزراء بالموافقة على تقنين أوضاع 168 كنيسة ومبنى مسيحيا اجتماعيا، ليرتفع عدد الكنائس والمباني التي تم توفيق أوضاعها إلى 508 خلال 2018. وقد أوضحت الناشطة القبطية الدكتورة هبة عادل على صفحتها؛ أن "هذه الأرقام غير المسبوقة في تاريخ مصر تفسر لماذا تؤيد الكنيسة الديكتاتورية العسكرية؟ ولماذا يؤيد قداسة البابا السيسي المنقلب، ولماذا يفعل كل ذلك؟". كما عبرت عن أسفها أيضا "لمقايضة حق المسيحيين في بناء الكنائس على مواقف سياسية، وليس كحق مواطنة في دولة قانون، وهو ما يكرس الاستبداد، ويدفع إلى الطائفية والعنصرية ضد الأقباط كرد فعل على مواقف لا يد لهم فيها، إنما قام بها قداسة البابا ومن حوله من رجال الكنيسة!".

موقف البابا ليس سلبيا تجاه فترة حكم الرئيس مرسي فقط، بل ضد ثورة يناير وكل ما أفرزته. وبالمناسبة، كان موقف الكنيسة رافضا للثورة عند اندلاعها، ورغم العداوة المعروفة بين البابا الراحل شنودة الثالث ومبارك، إلا أنه حاول إقناع الأقباط، وعموم المصريين بالسماح له لاستكمال فترته الرئاسية، كما زاره في المستشفى العسكري التي كان محتجزا فيها. ويمكن فهم الموقف السلبي للكنيسة بأساقفتها من الثورة بسبب مناخ الحرية الذي وفرته الثورة للشعب المصري، ومن ضمنه المسيحيين الذين تظاهروا ضد قيادة الكنيسة لأول مرة في قضية اجتماعية (الطلاق)، كما خرج الكثير من الشباب القبطي خارج أسوار الكنيسة لأول مرة معبرا عن نفسه، وعن همومه ومشاكله، من خلال العمل العام في الأحزاب والحركات الشبابية والاجتماعية التي تختلف عن أسلوب الرعاية الكنسية التي فرضت نفسها ممثلا رسميا وحيدا للاقباط أمام الدولة بأجهزتها المختلفة؛ فلا يتم اختيار وزير أو محافظ أو عضو في أي هيئة حكومية إلا بترشيح أو موافقة الكنيسة، ولا يتم ترميم كنيسة أو دار خدما.. الخ؛ إلا بمفاوضات بين الكنيسة والسلطة. وهذه سياسة حبست المسيحيين - في عمومهم - داخل جيتو الكنيسة، وحرمتهم من الاندماج في العمل السياسي والأهلي، حتى تظل الكنيسة هي صاحبة اليد العليا، والكلمة الفصل في كل أمورهم. إلا أن ثورة يناير كسرت هذه المعادلة كما أسلفنا، وبالتالي فقد ناصبتها الكنيسة العداء، وكانت ركنا ركينا في الثورة المضادة التي أطاحت بثورة يناير في انقلاب الثالث من تموز/ يوليو 2013.

رغم أن غالبية القوى المدنية التي دعمت انقلاب السيسي تخلت عنه، بل إن الكثير منها يناصبه العداء حاليا متناغما مع تصاعد الغضب الشعبي، إلا أن الكنيسة وقيادتها ظلت على موقفها الداعم للحكم العسكري، وحين لم يجد السيسي من يستقبله في نيويورك - كما كان يحدث من قبل - تصدت الكنيسة للمهمة، وسافر البابا شخصيا ليشرف على ترتيبات الحشد، وسافر أيضا عدد من الأساقفة ليطوفوا الولايات التي تحتضن وجودا قبطيا. وفي حال استمر السيسي في خطته لتعديل الدستور، فإنه سيعتمد مجددا على الأصوات المسيحية لتمثل غطاء شعبيا شكليا، فهو لا تهمه نسبة المشاركة ولا نسبة التصويت الفعلي، بل إن كل ما يهمه هو وجود بشر أمام اللجان، وستقوم آلته الأمنية والإعلامية بتضخيم الأرقام كما تشاء.

وإذا كانت الكنيسة مستمرة في دعمها للسيسي، بالمخالفة لموقف بقية القوى الوطنية والفئات المجتمعية، فإن الدعم الشعبي القبطي تراجع أيضا. وقد رأينا علامة ذلك في استقبال السيسي في نيويورك مؤخرا، حيث اقتصر الحضور على عدد قليل جدا من كبار السن والعجائز. ويشير الكاتب القبطي كارلوس أنيس إلى أن" الشارع أصبح في حالة ثورة كامنة ضد السيسي.. غلاء الأسعار يلعب دورا أساسيا في هذا. أما الأقباط، الفصيل الذي كان الأكثر تأييدا للسيسي، فقد تراجع عنه تراجعا كبيرا. فالإرهاب ما زال موجودا، بل وزاد.. ثلاثة أعوام فشل النظام في مواجهة الإرهاب الذي هو حجة وجوده بالأساس، هذا بالإضافة إلى فشله في العديد من الأنحاء والنواحي الداخلية والخارجية".

وتساءل الكاتب القبطي: "متى يثور الأقباط، ومتى تتحدث الكنيسة، ليس هذا وقت تضحيات وشعارات وطنية جوفاء، أنت في مكتبك تمتلك حراسة، وشعبك هو من يُدهس ويُرمى بالرصاص في الشوارع والأزقة. كيف تكون راعيا أمينا لرعية مخلصة، متعلقة بأهداب ثوبك البطريركي، أنت من قبلت الدخول إلى اللعبة السياسية، وأنت من ناديت بالسيسي رئيسا، نحتاج أن نسمع منك، لا بل أن نرى منك موقفا إزاء ما يحدث. فهل أنت بابا الشعب أم بابا الأنظمة؟!".

في مقابل السنة التي وصفها بالسوداء، والتي قاسى فيها المسيحيون كثيرا (حسب حوار سابق للبابا مع الأهرام 4 كانون الثاني/ يناير 2017)، يعتبر البابا تواضروس سنوات حكم السيسي بأنها أفضل سنوات مرت على مصر والمصريين، في تناقض واضح مع مشاعر جموع المصريين وبينهم الأقباط؛ الذين يئنون تحت نار الظلم والفقر والقهر وجنون الأسعار وتراجع الخدمات، بل إن المسيحيين الذين يفترض أن البابا يدافع عنهم؛ لم يعانوا مشكلات أمنية كما عانوها في عهد السيسي، فحجم العمليات الإرهابية التي استهدفتهم خلال خمس سنوات يفوق جملة ما تعرضوا له من جرائم خلال 30 عاما من حكم مبارك. وإذا كان البابا يعتبر أن توفيق أوضاع أكثر من 500 كنيسة وبيت خدمة؛ إنجاز غير مسبوق، فإن هذا الإنجاز الذي جاء كصفقات سياسية مع النظام هو حق طبيعي للأقباط؛ كانوا سيحصلون عليه في ظل دولة مدنية يحكمها القانون الذي يسوي بين أبناء الوطن في الحقوق والواجبات.

أما السنة التي وصفها البابا بالسواد، فقد شهدت وصول أول قبطي مصري لمنصب مساعد رئيس جمهورية (المهندس سمير مرقص)، وهي التي تراجعت فيها الجرائم الإرهابية ضد الأقباط إلى أدنى مستوى، وهي التي سعى الحزب الحاكم فيها لحوار جاد مع الأقباط حول همومهم ومخاوفهم، وحين رفضت قيادة الكنيسة هذا الحوار، فقد تم مع شباب قبطي وشخصيات مدنية قبطية بعيدا عن الكنيسة، بل إن هذا الحزب الحاكم اختار مسيحيا (د. رفيق حبيب) ليكون نائبا لرئيسه د. سعد الكتاتني، وهو الذي تولى الرئاسة بالإنابة بعد اعتقال رئيس الحزب وحتى صدور قرار حله.

مخاوف المسيحيين حول حاضرهم ومستقبلهم هي مخاوف مشروعة، وكانت في طريقها إلى الحل بعد ثورة يناير عبر مسارات طبيعية مدنية.. والحكم العسكري لن يقضي على هذه المخاوف، بل هو حريص على إبقائها وإذكائها، والتلاعب بها في صفقات تخدم بقاءه. وهو لا يفعل ذلك مع المسيحيين، فقط بل مع المسلمين أيضا، حيث يخوف الجميع بمصير سوريا والعراق، متجاهلا أننا في قلب هذا المصير بالفعل، بل إن سوريا والعراق تتمتعان بمراكز متقدمة عن مصر في الكثير من التصنيفات الدولية.

الحكم العسكري المستبد لا يستطيع البقاء إلا في ظل شعب متفرق، ومع شعب خائف، وهذا الحكم هو الذي صنع الانقسام المجتمعي منذ أول يوم لاستيلائه على السلطة، وهو الذي زرع الخوف في نفوس الكثيرين، وركز بشكل خاص على تغذية الخوف لدى الأقباط، وهو المستفيد الأكبر من استمرار الجرائم الإرهابية ضدهم، ولا يبذل جهدا جادا لمنعها. ولا حل حقيقيا لمشاكل ومخاوف الأقباط إلا في دولة مدنية حديثة؛ يضع قواعدها المسلمون والأقباط معا.

أضف تعليقك