• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانية واحدة

من المقولات المشهورة للإمام الشهيد حسن البنا: "إن الإيمان الحق ليفعل في أصحابه فعل السحر؛ فيغير تفكيرهم وشعورهم، وألفاظهم ومظاهر حياتهم، وأخلاقهم وطبائعهم وسجاياهم وينشئهم خلقًا آخر".

على هذه المعاني الحقة نشأ كامل الشريف، وتربى عليها، وربَّى كذلك من جاء بعده، فأخرج رجالاً دقوا حصون العدو الصهيوني في فلسطين، وزلزلت أركان المحتل البريطاني في القنال، وخلقت فيهم معانيَ العزة والكرامة، فملئوا الدنيا ضياءً.

وفي صباح الأربعاء 23 يناير 2008م= الموافق 14 من المحرم 1429هـ، نعت الأمة الإسلامية المجاهد والمناضل والمفكر الكبير الأستاذ كامل الشريف عن اثنين وثمانين عامًا، وقد دُفن في الأردن، وقد نعاه فضيلة الأستاذ محمد مهدي عاكف المرشد العام للإخوان المسلمين، وقد أشار إلى أنه ظل- رحمه الله- ثابتًا على دعوته حتى لقي ربه، وإن الإخوان المسلمين يحتسبون عند الله- تعالى- أخاهم المجاهد الكبير.

وقد شارك وفدٌ من قيادة جماعة الإخوان المسلمين في الأردن برئاسة نائب المراقب العام للجماعة الأستاذ جميل أبو بكر في تشييع الجنازة، كما نعت الحكومة الأردنية الأستاذ كامل الشريف.

البداية

وُلد كامل الشريف عام 1926م، بمدينة العريش بمصر، وتربَّى على أرضها، وشرب من نيلها، وتعلَّم معنى العزة والكرامة بين أحضان أبنائها؛ فقد نشأ في أرض سيناء العزيزة؛ حيث أكسبته الطبيعة خشونةَ الحياة وقوةَ العزيمة، وسعة الأفق والقيادة المبكِّرة.

وتدرَّج في مراحل التعليم، فكان مجدًّا في مذاكرته متفوقًا في دراسته، ولم يمنعه ذلك من تلبية نداء القلب، ألا وهو الجهاد.

ويذكر أنه كان ضابطًا احتياطيًّا في يافا، واختاره أهل يافا ليكون قائدهم، وكان ذلك قبل دخول الإخوان لفلسطين، وبعدها التحق بجماعة الإخوان المسلمين في 1947م، في يافا، وعندما ذهب الإمام البنا مع الكتيبة المتجهة لفلسطين تعرَّف عليه، واختاره قائدًا لكتائب الإخوان، وبعدها أخذ يتبادل الرسائل مع الإمام البنا.

اختير ليكون أحد أفراد النظام الخاص، والذي تربَّى فيه على معنى الجهاد والعمل من أجل غاية سامية، فباع نفسه لله، وكان يتمثَّل قول الله- عز وجل- ﴿إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ (التوبة: 111)، فعمل بكل كيانه على تحقيق هذا المعنى في نفسه، وبلوغ الشهادة في سبيل الله، وقد تدرَّب في النظام الخاص على حب الله والعمل له، وحب الوطن والانتماء، وعلى المعاني الروحية التي سمت بالنفس عن نقائص الدنيا، كما نال تدريبًا عسكريًّا على جميع أنواع الرياضيات وفنون القتال، والتدريب على جميع أنواع السلاح حتى لفت نظر قادته إليه؛ مما أهَّله إلى أن يكون قائدَ قوات الإخوان في حربَي فلسطين والقنال.

 القائد الشاب
 
 الصورة غير متاحة

كامل الشريف

كانت فلسطين إحدى القضايا المهمة في فكر الإخوان المسلمين ومنهجهم، واعتبر الإمام البنا القضية الفلسطينية هي قضية الأمة الإسلامية كلها، فأنشأ النظام الخاص ليكون درعًا واقيًا ضد عصابات اليهود التي أخذت تتحرَّش بفلسطين وتهدِّد المواطنين المستضعفين بها، وتجبرهم على الرحيل، وكانت الانطلاقة الأولى عندما اندلعت ثورة 1936م، بقيادة المجاهد عز الدين القسّام.

ومع انطلاقها أخذ الإمام البنا ينشر القضية وسط المجتمع المصري، ويعرِّفهم بها عن طريق طبع كتاب "النار والدمار في فلسطين"، والذي اعتقل من أجله كثيرٌ من الإخوان، كما أنه أخذ في جمع التبرعات والسلاح ليرسله إلى المجاهد أمين الحسيني- والذي خلف المجاهد عز الدين القسام على درب الجهاد- كما ذكر أنور السادات في كتابه "البحث عن الذات".

وأصدر الإمام لرفاقه وإخوانه رسالةَ الجهاد؛ يحثُّهم فيها على الإخلاص لله والجهاد في سبيله، ومن ثم عندما انطلقت المظاهرات في نوفمبر 1946م، بمناسبة وعد بلفور، والتي قادها الإمام البنا والهيئات الوطنية أمثال المجاهد صالح حرب، وعبد الرحمن عزام، وعد الإمام البنا بإرسال كتائب الإخوان للذود عن فلسطين، وما كادت العصابات اليهودية تبدأ في الحروب المنظَّمة في فلسطين وتساعدها بريطانيا على ذلك بأن أخذت تنسحب من فلسطين لتحلَّ محلَّها الصهاينة، وقد أعلنت بريطانيا أنها ستسحب جميع قواتها في 15/5/1948م، قبلها كان الإخوان قد أعدُّوا عُدَّتهم وتحرَّكت كتائبهم إلى فلسطين يقودهم المجاهدون محمد فرغلي ويوسف طلعت وكامل الشريف، والذي كان المسئول المباشر لمعسكر البريج، وهو المعسكر الذي جمع مجاهدي الإخوان.

وقد اشترك المجاهد كامل الشريف في عدة معارك؛ مثل معركة دير البلح، والتبة 86، كما تصدَّى وإخوانه المجاهدون للقوات اليهودية التي طاردت الجيش المصري بعد انسحابه، وحاولت الاستيلاء على العريش، غير أنها اصطدمت بقوات الإخوان المرابطة فيها.

يقول في كتابه (الإخوان المسلمون وحرب فلسطين): "حين وضحت نيَّات الحكومة البريطانية وسياساتها في فلسطين، أخذ الإخوان المسلمون يعقدون المؤتمرات تباعًا، ويبيِّنون للشعوب والحكومات حقيقةَ هذا الخطر الذي يهدِّد كيانهم ومستقبلهم، حتى نجحوا في إشراك العالم الإسلامي كله في هذه القضية، وباتت قضية فلسطين والعرب لا قضية أهل فلسطين وحدهم، وحين قامت القلاقل في فلسطين أخذوا يمدُّون المجاهدين الفلسطينيين بما يقع تحت أيديهم من مالٍ أو سلاحٍ، حتى نجح الإخوان في تسلل عددٍ من شبابهم للالتحاق بثورة الشيخ عز الدين القسّام عام 1935م، وثورة 1936م، وبخاصةٍ في المناطق الشمالية.

وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية أخذ الإخوان المسلمون يعملون للقضية الفلسطينية عملاً إيجابيًّا؛ فأرسلوا وفودًا لتدريب الفلسطينيين تدريبًا سريًّا، ولقد نجحوا في ذلك إلى حدٍّ بعيد، حتى أصبحت شُعب الإخوان ومراكزهم ودورهم هي مراكز القيادة وساحات التدريب، ولا يزال أهل فلسطين الأوفياء يحمدون للداعية الإسلامي سعيد رمضان مواقفه الكريمة وأثره البالغ في توجيه الشباب العربي وجهةً صالحةً، ويذكرون بالفخار والإكبار جهودَه وجهودَ إخوانه الأساتذة عبد الرحمن الساعاتي، وعبد المعز عبد الستار، وعبد العزيز أحمد، وغيرهم من كرام دعاة الإخوان المسلمين ومدربيهم".

يقول عنه المجاهد عبد الرحمن البنان: "وأخذت أستوضح من نور الدين الفرا عن شخصية قواد المعسكر الأستاذ محمد فرغلي وكامل الشريف، فأوصاني ألا أحكيَ لهم عن مقابلتي للأستاذ حسن البنا وعن رفضه قبولي متطوعًا لأنني طالب، وطمأنني بأنه سيقابلني بكامل الشريف، وهو شابٌّ في التاسعة عشرة من عمره، شجاع مقدام، وسيسعد بك كثيرًا؛ لأنك تركت الدنيا وراءك وتريد الجهاد والاستشهاد، وسيتفهم ظروفك، وسيعطيك "كارنيه" وتصريحًا لتعبر من هذه المواقف الخطيرة التي عرَّضت نفسك لها.

وكان كامل الشريف شابًّا طويلاً نحيفًا وسيمًا، يرتدي الملابس العسكرية، وكان مكتبه بسيطًا جدًّا.

دخلنا ثلاثتنا، وحيوه بتحية الإسلام وليس بالسلام العسكري المعروف، فأحسست بأنهم رجال لا يحبون هذه المظاهر الفارغة، واستقبلني كامل الشريف بترحاب حاول إخفاءه، وبدأني بالحديث قائلاً: "إنني عرفت قصة مغامرتك يا عبد الرحمن من نور حتى تصل إلى هنا لتكون مجاهدًا في سبيل الله، وإنني أرحِّب بك رغم صغر سنك؛ فلقد برهنت بتصرفك هذا على رجولة مبكرة، وعندنا في المعسكر شباب في مثل سنك، ولكنني لا أعدك وعدًا نهائيًّا حتى تثبت لي بعد أسبوعين من التدريب العنيف كفاءتك وقوة تحملك؛ فالحرب ليست سهلةً، ولكنها تحتاج إلى قوةٍ وصلابةٍ وصبرٍ، وإنني واثق بأنك ستكون جديرًا بالجهاد في سبيل الله"، وأعطى أوامره لعبد الله بأن يضموني إلى مجموعة التدريب من اليوم، وأن أكون مع فرقة نجيب جويفل، وهي فرقة الشباب".

ووصفه الأستاذ محمود أبو رية بقوله: "كامل الشريف هو من إخوان العريش، وهو قائد من القواد المحسوبين في فلسطين؛ لأنه حضر معارك فلسطين كلها، وكان آخر أيامه يدافع عن القدس، وحارب مع الجيش الأفغاني والمصري، وكانت بدايته مع الجيش المحارب في قطاع غزة، وكان منهم الأخ محمد الفلاحجي، وغيرهم الكثير في هذه المعركة، وهي أول معركة قامت هي معركة دير البلح".

ويقول الأستاذ محمد مصطفى أبو السعود: "أول من نزل أرض فلسطين، وقبل الجيوش المنظَّمة كانت طلائع الإخوان بقيادة الشيخ فرغلي وكامل الشريف؛ فكان هؤلاء الذين خاضوا أول معارك مع اليهود وكفار ديروم، واستُشهد من الإخوان 11 فردًا؛ كان نصيب المنوفية 4 أفراد منهم، كان كلهم من النظام الخاص تقريبًا؛ لأنهم كانوا من الذين يوثق بهم في التضحية الكاملة للدعوة الإسلامية في ذلك الوقت".

كما أشاد كامل الشريف بحب الإخوان للجهاد، فقال: "ولا زلت أذكر اليوم الذي حضرت فيه مجموعة من الإخوان قوامها خمسة عشر شابًّا؛ لم تكن تزيد أعمارهم عن السادسة عشرة، وكانوا كلهم من طلبة المدارس الثانوية، وسألتهم عن سبب مجيئهم فقالوا إنهم يرغبون في تأدية فريضة الجهاد بعد أن نجحوا في امتحاناتهم لهذا العام، ثم أخذوا يقصون عليَّ أنباء رحلتهم الشاقة، وكيف غافلوا رجال البوليس وقفزوا إلى عربات البضائع في قطارات السكك الحديدية، وكيف ساروا مسافات شاسعة في صحراء سيناء الموحشة بمعاونة دليل من البدو.

وكنت أستمع إليهم وقد بلغت الدهشة مني كل مبلغ، والأسئلة تتوارد على ذهني يلاحق بعضها بعضًا: أهكذا تفعل تربية الإسلام في نفوس الشبيبة؟!".

استنجد به اللواء فؤاد صادق قائد الجيش المصري أكثر من مرة، وقال له: "يا كامل.. أنتم أشخاص أطهار، فابقوا بمفردكم مطهرين لتكونوا جهةَ قوة؛ فلا أريد إدخالكم معنا"، وعندما انتهت المقاومة قال له: "يا كامل.. تصرَّف"، ومن الهرجلة سأل كامل الضباط: "ما هذه القوات التي تقف هناك؟" فقالوا له: "هؤلاء مصريون" وذهب الإخوان ووجدوا أنفسهم أمام اليهود وليسوا مصريين، فعاد مرةً أخرى وقال لهم: "إنني أريد دبابات ومصفحات؛ لأنه كان هناك وادٍ طويل وعليه جبال، فتسير الدبابات وكل دبابة ومصفحة يمشي وراءها إخوان، وقبل التبة بـ20 أو 15 مترًا سنهجم.

وأحضروا لي بالفعل ما أراد، وكان فؤاد صادق يكلم النقراشي على اللاسلكي: "الجيش يفر فرادى ووحدات.. لم يبق في الميدان إلا الإخوان المسلمين.. الإخوان تقدموا.. الإخوان فعلوا كذا وكذا"، وهكذا لحظةً بلحظة.

وقبل التبة بحوالي 10 أو 12مترًا كبَّر الإخوان وقذفوا، فهرب اليهود وتركوا أسلحتهم وطعامهم وكل شيء، وفؤاد صادق أصرَّ على أن يُنعم عليَّ بنيشان عليه نجمة سيناء".

وفي موضع آخر قال له: "يا كامل.. العوجة تحتضر، وتريد نجدةً، ونحن أرسلنا نجدةً لها منذ 3 أيام، وأنت ممكن أن تذهب لإخوانك وتتصرَّف"، وسرنا حوالي 10 أمتار فقط فوجدنا النجدة التي خرجت من 3 أيام تقف وراء تبة، وسألناهم: "لماذا لا تدخلون؟!" قالوا لنا: "الضرب شديد"، فقلنا: "ولقد أتينا لأن الضرب شديد"، قالوا: "لا نستطيع الدخول، وإذا لم نخف على أنفسنا نخاف على الدبابات"، وقلنا لهم: "أعطوا لنا الدبابات لندخل بها"، قالوا: "لقد سيطروا على التباب، وقطعوا الطريق بالرصاص، ولم تكن هناك فائدة"، وذلك كما ذكر المجاهد أبو الفتوح عفيفي.

وبعد أن انتهت حرب فلسطين بخيانة الحكام أمر النقراشي باشا رئيس وزراء مصر اللواء فؤاد صادق بالقبض على المجاهدين الإخوان وسحْب سلاحهم، فكان لفؤاد صادق موقفٌ شجاعٌ حينما رفض ذلك، وردَّ عليه كامل الشريف: "إننا نشغل أنفسنا بالأحداث التي تحدث في مصر وحلِّ جماعة الإخوان، لكننا هنا للدفاع عن أرض فلسطين وحماية شعبها".

غير أنه بعد أن انتهت الحرب تم القبض على كل المجاهدين، وإيداعهم معتقل الطور، وظل كامل الشريف في المعتقل حتى أُفرج عنه مع إخوانه، غير أنه لم يكل، بل نشط وسط إخوانه والمجتمع حتى وقف النحاس باشا في أكتوبر 1951م ليعلن إلغاء معاهدة 1936م والتي أبرمها مع الإنجليز، بعدها تحرَّكت جموع فدائيي الإخوان تحت قيادة كامل الشريف، والذي قاد هؤلاء الشباب الحر الذي باع نفسه لله، واستطاع أن يوقع بمجموعته القطار الحربي الإنجليزي، والذي فجَّره عبد الرحمن البنان تحت قيادة كامل الشريف، كما قامت مجموعته بنسف مستودع الذخيرة في أبي سلطان، حتى أقلقت مضاجع القوات الإنجليزية، والتي كانت عاملاً قويًّا أثناء عملية التفاوض حول الجلاء.

كان كامل الشريف يتحرَّك وسط المعركة كالفراشة التي تعرف أين تسير، حتى إنه يصف الأمر فيقول: "وحين بدأ الإنجليز التحرُّش بأهالي منطقة القناة والتعدي على الناس عمَّت المظاهراتُ الشعبية المنطقةَ كلها، وانعقد مؤتمر كبير بالإسماعيلية برئاسة الشيخ محمد فرغلي؛ حيث تقرَّر فيه التصدي للإنجليز بالقوة ومقاومتهم وضربهم في أوكارهم ومعسكراتهم، وقد حمل الشيخ فرغلي هذا القرار بوصفه رئيس المؤتمر إلى مكتب الإرشاد العام للإخوان المسلمين بالقاهرة، وقد أُعلن إضرابٌ عام للعمَّال العاملين في قناة السويس، وأضرب التجار عن إمداد الجيش الإنجليزي بالمواد التموينية، واندفع الشعب يساند مجاهدي الإخوان المسلمين، لمناجزة الإنجليز ومحاربتهم، وقد قتل الإخوان الكثير من جنود الإنجليز، وجرحوهم ودمَّروا الكثير من المنشآت العسكرية والجسور والدبابات والمصفحات، فخاف الجنود وأُعلنت حالة الطوارئ عندهم، ومُنعوا من الخروج من معسكراتهم بعد الغروب، وانكسرت هيبتهم أمام الناس، وصار الأطفال يرمونهم بالحجارة، وتحمَّس بعض ضباط الجيش المصري واندفعوا مع الإخوان؛ يدرِّبون الشباب على أنواع الأسلحة وفنون القتال، وقد أتيح لي شخصيًّا أن أحضر اجتماعات متعددة، كانت تعقد في منزل الشيخ محمد فرغلي بالإسماعيلية، يحضرها بعض الضباط المصريين وبعض قادة الإخوان المسلمين".

ثم يصف حاله مع باقي القادة فيقول: "سألني يوسف طلعت ظهر يوم ونحن على مائدة الغداء في منزل الشيخ محمد فرغلي: هل ترغب في زيارة أحد الجنرالات الإنجليز في منزله، وتناول الشاي على مائدته العامرة؟، فضحكت لهذه الدعابة، ولكنه أكدَّ لي أنه لا يمزح ولا يقول إلا حقًّا؛ الأمر الذي أدهشني غاية الدهشة، ولكنه فسَّر لي الموضوع قائلاً: إن لديه أخًا مخلصًا يعمل في المعسكرات البريطانية ولا يعرفه أحد حتى الإخوان أنفسهم، وأنه وصل إلى مكانة عظيمة في نفس الجنرال الإنجليزي؛ مما يساعده على التجوُّل في المعسكرات بحريةٍ تامةٍ، وأنه يحمل معه شهادةً تمكِّنه من دخول منزل الجنرال وكبار الضباط في أي وقت يشاء.

وقال يوسف طلعت- غامزًا بعينيه التي تفيض منها الشجاعة والدهاء-: ألا ترى أن جولتك تبدو ناقصةً مبتورةً إذا أنت لم تَقُمْ بنزهة طويلة مع صاحبنا؟!، والحق أنني أبديتُ تخوُّفي من هذه المغامرة، ولكن العرض كان مغريًا إلى درجة يصعب مقاومته، فقمتُ من فوري وقلتُ في حزم: غداً، فقال يوسف طلعت: غدًا صباحًا إن شاء الله تعالى".

انتهت الحرب وعاشت البلاد حالةً من الفوضى بعد أحداث حريق القاهرة الذي اندلع في 26 يناير 1952م، بعدها استعد بعض الضباط الأحرار، أمثال جمال عبد الناصر، وعبد المنعم عبد الرءوف وغيرهم بمشاورة الإخوان المسلمين عن كيفية قيام ثورة تطيح بحكم الملك، وبعد مداولات ومشاورات وافق المرشد العام المستشار الهضيبي أن يشارك الإخوان في قيام الثورة، وفي 23 يوليو 1952م تحرَّكت القوات التابعة للضباط الأحرار، كما تحرَّك الإخوان المسلمون بنظامهم الخاص لحماية المنشآت والمؤسسات، ونجحت الثورة وشارك فيها القائد كامل الشريف بتأمين الطريق المؤدي من الإسماعيلية إلى القاهرة؛ لمنع تدفق الجنود البريطانيين لنصرة الملك ضد الثورة، غير أن الضباط الأحرار أمثال عبد الناصر وجمال سالم وعبد الحكيم عامر تنكَّروا لدور الإخوان وتمسَّكوا بالحكم، وأخذوا يوجِّهون الضربات للإخوان، فأصدر مجلس قيادة الثورة قرارًا بحل جماعة الإخوان المسلمين في ديسمبر 1953م، ثم اعتقال قادتهم في يناير 1954م.

وظل الحال حتى اندلعت مظاهرات مارس التي طالبت بعودة محمد نجيب والديمقراطية وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، بعدها سافر المرشد العام وبعض إخوانه في جولة إلى السعودية وسوريا ولبنان.. في هذا التوقيت كانت الأجواء ملبَّدةً بين رجال الثورة والإخوان، فعاد المرشد العام، غير أن بعض الإخوة رفضوا العودة، أمثال عبد الحكيم عابدين السكرتير العام للجماعة، وسعيد رمضان، وسعد الدين الوليلي، وكامل الشريف، وفي 26 أكتوبر 1954م، حدثت حادثة المنشية، وزُجَّ بالإخوان في المعتقل، وحُكم على الإخوان الهاربين بالأشغال الشاقة وإسقاط الجنسية المصرية عنهم، وكلَّف عبد الناصر بعض رجاله في الخارج بمحاولة القبض على الهاربين، غير أنهم لم يتمكَّنوا من ذلك، ومنذ أحداث 54 تم عمل تنظيم للإخوان خارج مصر في البلاد العربية، وتم تجميع بعض المصريين الذين خرجوا من مصر، وهربوا من الأحكام التي حكم بها عليهم عبد الناصر، وكان منهم نجيب جويفل، وكامل الشريف، عز الدين إبراهيم، سعد الوليلي، وسعيد رمضان، وعبد الحكيم عابدين.

الانطلاق نحو الأفق

بعدما هرب الأستاذ كامل الشريف استقرَّ في الأردن، وأسَّس مع شقيقه المرحوم محمود صحيفة "الدستور" اليومية الأردنية عام 1967 في عمان، وكانا قد أسَّسا معًا صحيفة "المنار" في القدس المحتلة والتي توقفت بعد الاحتلال "الإسرائيلي" للقدس، كما أسَّسا صحيفة "ذي ستار" الأسبوعية باللغة الإنجليزية.

تقلَّد الشريف العديد من المناصب في الأردن؛ حيث شغل منصب وزير الأوقاف والشئون والمقدسات الإسلامية بين عامي 1976 و1984، كما عُيِّن سفيرًا للأردن في كلٍّ من ألمانيا وباكستان وماليزيا وإندونيسيا والصين، كما شغل عضوية مجلس الأعيان الأردني، وترأس مجلس إدارة جريدة "الدستور" الأردنية، ورئيس الهيئة التنفيذية للمؤتمر الإسلامي العام لبيت المقدس، والأمين العام للمجلس الإسلامي العالمي للدعوة والإغاثة، وهو مجلس يضم 80 منظمةً إسلاميةً، ويرأسه شيخ الأزهر.

ويعتبر الشريف أحد أبرز المدافعين عن المقدسات الإسلامية في القدس، ورئيسًا للمؤتمر الإسلامي العام لبيت المقدس، ورئيسًا للهيئة الإسلامية المسيحية للدفاع عن المقدسات، وأمينًا عامًّا للمجلس الإسلامي العالمي للدعوة والإغاثة، وعضوًا في رابطة العالم الإسلامي ومنظمة المؤتمر الإسلامي.

ولم يقتصر المجاهد على هذه الأعمال، بل ساهم بالكتابة، فألَّف كتاب "الإخوان المسلمون في حرب فلسطين"، والذي نشرته دار التوزيع والنشر الإسلامية، كما ألَّف المقاومة السرية في قناة السويس، الذي صدر عن دار الوفاء، عام 1987م.

رحم الله المجاهد العظيم، ونسأل الله أن يتقبَّل جهاده ويجعله في ميزان حسناته.

أضف تعليقك