مر من الأعوام 526 عامًا على سقوط الأندلس وتسليم مفاتيح غرناطة، آخر معقل لملوك الأندلس، للملكين الكاثولكيين فرناندو وإيزابيلا عام 1492، لينتهي بذلك عهد الخلافة الإسلامية في شبه الجزيرة الآيبرية ويبدأ مولد جديد للدولة الإسبانية، ويتحول المسلمون منذ ذلك التاريخ إلى مورسكيي الأندلس، ومن ثم إلى مسيحيين إسبان قد طُمس تاريخهم وتم محوهويتهم ومعتقدهم.
ظل مسلمو اليوم لفترة قريبة من الزمان لا يعرفون شيئًا عن تاريخ الأندلس إلا الجملة التي خلدها التاريخ الإسلامي والأرشيف الإسباني التي قالتها والدة الملك عبد الله الصغير بعد ضياع آخر معاقل المسلمين في الأندلس من بين يديه، وهي الجملة التاريخية المشهورة "ابك كالنساء على مُلك لم تصنه كالرجال"، إلا أن التاريخ لا يُدَرس من نهايته، ولا يمكن اعتبار النهايات معرفة بالتاريخ وما حدث فيه ليؤدي إلى ما يعرفه المسلمون من نهاية، فبدأت منذ أكثر من خمس سنوات ثورة تُسمى بثورة إحياء الأندلس، شملت الندوات والروايات وصفحات عدة على مواقع التواصل الاجتماعي هدفها التعريف بتاريخ الأندلس منذ البداية، بدأ الأمر يحظى باهتمام حيز كبير من الشباب نظرًا لتشابه ما حل بالأندلس بحاضر المسلمين حاليًا، حيث بدأ الأمر بسلاسل دينية تشرح تاريخ الأندلس تحت مسمى "فلسطين كي لا تكون أندلسًا أخرى"، ومن بعدها رواية "ثلاثية غرناطة" للراحلة رضوى عاشور تجسد فيها تاريخ الأندلس حتى السقوط في شكل اجتماعي رائع ومؤلم، ثم تأتي الناشطة الفلسطينية الشابة منى حوا بإنشائها حملة إحياء الأندلس على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي بهدف التعريف المستمر بالأندلس وتشجيع الشباب على مزيد من القراءات الخاصة بتلك الحقبة من الزمن التي تخص المسلمين.
اهتم الإسبان أكثر من المسلمين بدراسة ما حدث في الأندلس وحفظ سجلات ذلك الأرشيف، على الرغم من تدمير جزء كبير منه عند غزو نابليون إسبانيا، إلا أنه تم حفظ العديد من المخطوطات القديمة والرسائل المبعوثة بين حكام المسلمين وحكام الدولة القشتالية الغازية لأراضي الأندلس، وبالأخص السجلات الخاصة بمحاكم التفتيش التي أرّخت مختلف صور الإهانة الإنسانية وأشكال التعذيب ضد المورسكيين.
بدأ الأمر متفائلًا ومتسامحًا بين الدولة القشتالية وما تبقى من مسلمي الأندلس بعد سقوط غرناطة، فبعد توقيع معاهدة التسليم، والتي كانت تنص على عدم تعرض المسلمين لمضايقات النصارى وتمتعهم بحرية المعتقد وحرية ممارسة شعائرهم الدينية، بالإضافة إلى عدم إجبارهم على تمييز ملابسهم، وعدم دخول النصارى إلى أماكن عبادتهم بدون إذن الشيوخ أو الفقهاء لهم، كان من الممكن سماع الآذان في شوارع غرناطة، ساد التسامح الذي لم يستمر طويلًا بين القتشاليين ومسلمي الأندلس، حيث إن " تلايبرا" الملقب في ذلك الوقت بالفقيه الكاثوليكي والمسؤول عن محاكم التفتيش، تميّز بتسامحه الديني وتعاطفه مع المسلمين، والذي أدى إلى تراجع التضييق عليهم ومنحهم بعض الحرية.
بدأت نهاية المسلمين في الأندلس عام 1501، مع بداية التعميد والتنصير الإجباري، والتي أذنت بنهاية الإسلام الرسمي تحت حكم دولة قشتالة، فبعد أن تمّ الاستيطان، توسع حضور الكنيسة البابوية في تلك الحقبة من القرون الوسطى، وبدأ التضييق على المسلميين بمباركة البابا والكنيسة، فجاء الكردينال سينيروث، الذي قرر القضاء على كل ما هو عربي أو إسلامي في الأندلس، حيث أحرق كل ما وقع تحت يده من مصاحف، أغلق الحمامات ومنع بيع السلاح للمسلمين كما منع بيع الأراضي من غير المسلم للمسلم وكذلك من المسلم للمسلم، حرّض سينيروث على قيام ثورات مناهضة لوجود المسلمين في حي البيازين وفي مملكة ليون وآراجون، كما منع التحدث باللغة العربية وأبطل الاعتراف بكل العقود التجارية المكتوبة باللغة العربية.
جاء الوقت لمحاكم التفتيش في أن تمارس دورها الدموي المعروف في التاريخ الإسلامي، وكما هو مؤرخ في الأرشيف الإسباني، باتهام من تمّ تعميدهم وتنصيرهم قسريًا بالهرطقة والنفاق أمام الكنيسة، حيث دارت شكوك الكنيسة حولهم في استمراريتهم بممارسة شعائرهم الإسلامية داخل بيوتهم، الأمر الذي أدى إلى تحول محاكم التفتيش من محاكم دينية إلى وسيلة قمعية في يد السلطة، وتحويلهم من قساوسة للدين إلى جواسيس، حيث أمروا المورسكيين بترك أبواب بيوتهم مفتوحة لمراقبتهم فيما كانوا يمارسون الشعائر الإسلامية أم لا، أدى ذلك إلى إعدام وحرق العديد منهم ونفي الأغلبية منهم إلى بلاد الشمال الأفريقي الإسلامية.
استمر عمل محاكم التفتيش حتى القرن التاسع عشر، بعد أن قضت على أغلبية المورسكيين وأجبرتهم على التخلي عن أملاكهم والعمل في أراضيهم كعبيد، حاول بعضهم المقاومة بشتى أنواعها، في شكل ثورات المجاهدين في آخر عهد الأندلس، أو بأشكال المقاومة على الفعل السياسي المباشر إلا أن مقاومة الأهالي أنفسهم باءت بالفشل، وفضل العديد منهم التعميد على التخلي عن أملاكهم، وإن كانت الكنيسة تفتعل الحجج وتصادر أملاكهم بتهمة النفاق الديني.
حملة إحياء الأندلس الإلكترونية لاقت صدى غير متوقع من قِبل الشباب، إذ بدأت الحملة تأخذ شكلًا موسعًا في الأوساط الثقافية في البلدان العربية بإقامة الندوات الفكرية والفعاليات الثقافية في ذكرى سقوط الأندلس، حيث حققت الحملة هدفها في التأكيد على فكرة دراسة التاريخ وأهميتها في فهم الحاضر وعدم تكرار الأخطاء، فهي ليست هروبًا من الواقع كما يزعم الكثير، وإنما هي محاولة لكشف حقائق كثيرة يطمسها الغرب باحتفالات إسبانيا في الثاني من يناير من كل عام بالاستيلاء على الأندلس وهزيمة المسلمين، وزعمهم بأن تلك الأرض قد عادت لأهلها بعد أن احتلها المسلمون لقرون في وهم يذيعه الإسبان بأن حرب الأندلس كانت حرب استرداد وليست استيلاء.
"لا غالب إلا الله"، الشعار الأندلسي الذي يُزيّن جدران قصر الحمراء ولا يعرف معناه ومغزاه إلا من يعرف تاريخ الأندلس، كان درسًا من دروس مسلمي الأندلس لغيرهم من المسلمين بأن النصر لا يكون إلا بالله وأن الملك لا يدوم إلا لله، أما الظالم فله أجل، فهو أمان للضعيف، بالإضافة إلا أنها تذكرة بالماضي ليكون عبرةً للحاضر، وأن انقلاب الأمور للخير لا يكون إلا بيد الله، فلله الأمر من قبل ومن بعد، ربما هي تربية إسلامية من الأندلسيين وضحت للعيان في حال المسلمين في العالم في هذه الأيام، لتثبت حقيقة غفلة المسلمين ووقوعه في الجحر لمرات ومرات.
أضف تعليقك