• الصلاة القادمة

    العصر 13:46

 
news Image
منذ ثانية واحدة

بقلم: سيف الدين عبد الفتاح

منذ الانقلاب العسكري، وتعلو على سطح الوعي والحياة في مصر مفارقاتٌ أكثر مما نرى من موافقات، على الرغم من شدة احتياج الوطن وأهله إلى التوافقات. من ذلك مفارقة "البلتجة" و"البلطجة"، أو"البلتاجية" و"البلطجية".

ترمز البلتاجية إلى المصري الأصيل المخلص لدينه ووطنه، الثابت على مبدئه، المقاوم للظلم وأهل الظلم ونظامه ودولته مهما كانت سطوته، المضحّي من أجل قيمه وأمته بالنفس والنفيس، الممتلئ بالعزة والمظهر للإباء والكرامة، مهما تكالبت عليه الضغوط والمظالم؛ ويقف الدكتور محمد البلتاجي علما على هذه المعاني، ونموذجا فائقا في هذا المقام.

أما البلطجة فهي تلك الروح الخبيثة المستكبرة التي قام عليها انقلاب العسكر، ومن شايعه، ويسير بها وعليها. وتتعدّد مظاهرها السيئة ورموزها المسيئة ممثلةً في قائد الانقلاب، وحلقته العسكرية غير المشرفة للعسكرية المصرية، وزبانيته في جهاز الشرطة، ثم سارقي منصات القضاء مدنسي قداسة العدالة، وأبواق الشر الناعقين على شاشات التطبيل والتضليل، وناقلي رسائل البلطجة اليومية.

البلتاجية هي الخيار الذي اختاره كل مصريٍّ شريف؛ أن ينحاز إلى وطنه وأهل وطنه، وأن يجهر بالحقّ في كل موقفٍ لا يخاف لومة لائم، وأن يكون، في مواقفه كلها، خاضعا لمبادئه وقيمه، وأن يقتحم العقبة، ويقدّر الكلمة حق قدرها، ويوافق ويفارق على أساس أخلاقيٍّ إنساني، لا على مصلحة شخصية، أو أهواء حزبية، أو طائفية، تستقطب الوطن، وتنقض نسيجه. محمد البلتاجي ذلك الطبيب العالم، السياسي القدير، الوطني المقتحم، الناقد الذاتي، المتميّز في أدائه السياسي، والثوري الصادق في مواقفه، كما يظهر لكل متابع له، يضرب المثل لهؤلاء المصريين الحارسين كرامة الوطن، وقلبه النظيف ووجهه المشرق. وليس محمد البلتاجي في ذلك وحيدا ولا فريدا، فمعسكر البلتاجية كبير، وواسع، ومتعدّد ومتنوّع، ولا يقتصر على أبطال الصبر على الاعتقال وآلامه ممن لا يحصيهم العدّ، ولا المطرودين، ولا المطاردين من بلطجية نظام الانقلاب في الداخل والخارج.. إنهم رجال ونساء وشباب وفتيات يحملون همّ الوطن، ويتحمّلون لأجله بلاءً كثيرا، ويوجدون على أرضه وخارجها، لكن يجمعهم كلهم مبدأ الصدق مع النفس، ومع الناس، وحب مصر.

البلطجي قاطع طريق، والبلطجية عندنا عنوان على السلوك الإجرامي، القائم على التبجّح بالجريمة والاستكبار، والتعالي باللصوصية، وغصب الحقوق، ونهب الأموال، وهتك الأعراض، وسفك الدماء. البلطجي فرد شاذٌّ في المجتمع، قائمٌ على استضعاف بعض الناس، وفرض وصايته أو سطوته عليهم، ومعاملتهم بحكم هواه، أو استعداده للإيذاء، أو التسبب في مشكلاتٍ. وقد كان فردا أو مجموعة صغيرة يمكن للسواد الأعظم أن يردعها، وللحكومات أن تقمعها، ويمكن للفرد القوي أن يرد على أحده هؤلاء بما يوقف شرّه أو يرد أذاه إلى نحره. لكن البلطجة السياسية والعامة نوع آخر، وهو الذي تقوم عليه أغلبية أنظمتنا العربية اليوم، باسم العسكر، أو استنادا إليهم، وإلى أجهزة شرطة مسجلة في دفاتر العالم تحت عنوان "مسجل خطر".

البلطجية في مصر اليوم شريحة يقودها قائد نظام الانقلاب الذي شهد البلتاجي عليه ذات يوم "أن لواء بالمخابرات الحربية اسمه عبد الفتاح هو من كان وراء موقعة الجمل وعارفا بها قبيل وقوعها، في معركة البلطجية في مواجهة البلتاجية الذين واجهوهم في موقعة الجمل، وهزموا البلطجي الانقلابي، والبلطجية الصغار شر هزيمة. هذا المنقلب الذي بلطج على مجتمع ودولة، وقطع الطريق على مسار ديموقراطي، ويقود وعصابته جيشنا وشرطتنا وقضاءنا وإعلامنا ووطننا ودولتنا، ويديرون شؤون الوطن بمنطق التبجّح بالقوة؛ وشعاراتهم: "ما أريكم إلى ما أرى"، "سنقتل أبناءهم، ونستحيي نساءهم وإنّا فوقهم قاهرون"، "لئن اتخذت إلهًا غيري، لأجعلنّك من المسجونين"، "من أشد منا قوة؟"، "أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي؟ أفلا تبصرون؟"، "لنخرجنّكم من أرضنا أو لتعودنّ في ملتنا"..

البلطجية، ورمزها الأول المنقلب المتبجح، الكاذب المقسم بالله على كذبه مرّاتٍ ومراتٍ، والناصح للشعب بكل شيء، لا صلة له هو به، وهذا من أفجر مظاهر بلطجيته. هذه البلطجية شخوصها كثيرة، ومثيرة للغثيان، وتملأ الفضاء الاستبدادي المضيق على مقاسهم.. منهم اللامبارك، نموذج البلطجي بالمصادفة، والقاضي الممثل أنه قاضٍ، وما هو إلا مؤدّ دور كومبارس على منصة القضاء، لا تتحرّك بلطجيته إلا تجاه الشرفاء من أمثال البلتاجي، والمذيع البلطجي الذي يمارس كل رذيلةٍ على المكشوف، ويمارس الفعل الفاضح على رؤوس الأشهاد، وهو يدّعي الشرف، ومنهم من يقول للناس: نحن بلطجية، عاجبكم أو لا يعجبكم، اشربوا من البحر، أو ارحلوا عن مصر.. فمصر صارت لا دار سلم ولا دار حرب، دار بلطجة، نوع فريد من الديار التي لم يعرفها العلماء.

وفي فقه البلطجية، يجتمع وزير الداخلية مع نخنوخ؛ من باب "نخنخة الدولة"، ونخنخة "أمن الدولة".. ومن عجائب القدر أن يشهد البلتاجي، رمز الشرف الحقيقي في ظلال الثورة الحقيقية، على البلطجي نخنوخ، ثم ما إن تقع الثورة المضادة والثورة الزائفة، حتى يفخر وزير الداخلية، محمد إبراهيم، بأنه يهاتف نخنوخ، ليتآمر معه على الشريف الكريم، وبعد أن يحكم القضاء تحت سيف الثورة على نخنوخ بالحبس ثمانية وعشرين عاما، ويرفض طعنه بالنقض أمام محكمة النقض، ليثبت الحكم نهائيا عليه، يراجع حكمه في المحكمة الدستورية. وفي أثناء إعادة النظر فيه، يصدر قائد الانقلاب كبير البلطجية عفوه الرئاسي عن نخنوخ؛ ليؤكد أن النخنخة آخر مراحل بلطجة الدولة.

مشهد آخر، وربما لن يكون الأخير في قصة البلطجة التي تعيشها مصر منذ الانقلاب، بشكل واضح وفاضح، مشهد شهادة حسني مبارك المخلوع، وقد دعي للشهادة ليشهدوه ثورة يناير بالعمد. من قامت عليه الثورة يشهد على الثورة، ليؤكد أنها قامت من خارج، ليدين شرفاء اتهموا زورا وبهتانا. لم يملك البلتاجي إلا أن يرد عليه وعلى بلطجته في الشهادة.. ليصدع في وجهه ويسمعه ما يكره، إذ أدّى شهادته مأمورا، ليتحدث بما يُملى عليه. يسأله أين كنت وقد حدث ما تدّعي، وأكد أنهم قالوا.. وقد قلت، موجها حديثه لمبارك المخلوع، ليُشلّ لسان من افترى وكذب، ويُعمى بصره. إنها البلتاجية في مواجهة البلطجة في شهادة مبارك المخلوع، الذي خرج ليشهد على ثورةٍ وثوار ألقوا ظلما وعدوانا، كذبا وتلفيقا في السجون، بينما هو حر طليق يشهد مبلطجا على ثورةٍ قامت عليه وخلعته.

لبلطجة شبه الدولة في الفرعونية القديمة جذور عميقة، ولها في سياسات الاستخفاف والقوم المطيعين لها بفسقهم آثار عتيقة، لكن راعيها اليوم، باسم أمن الدولة وأمن الوطن، قد بلغ الدرك الأسفل من الاستبداد. القتل خارج القانون الذي أصبح سمة العصر البلطجي الراهن، والاستخفاف بالدماء وبحق الحياة، وتمييز دماء الأميركان والأوروبيين عن دماء الفييتناميين، ودماء المصريين، والاستخفاف بإعدام الناس شنقا وجوعا وذلاًّ.. ما هي إلا سلسلة من مشاهد دولة البلطجية الحاكمة لمصر اليوم.

سطوة البلطجية على البلتاجية هي التعريف الأمثل للانقلاب العسكري والإعلامي والقضائي والأمني. وإن الميزان العدل وعدل الميزان أن يُعاد الاعتبار للبلتاجي والبلتجة كرمز، ولا يكون ذلك إلا باجتماع كل هؤلاء على كلمة سواء: في مقاومة الانقلاب ونظام "3 يوليو" وعصابته التي اختطفت الدولة والمجتمع. هؤلاء هم الذين جعلوا من مصر معتقلا كبيرا ومرتعا للبلطجة،.. فمصر اليوم تعيش لحظة البلطجية التي شرُطها أن يكبت البلتاجية، واعتدال الأمور في مصر يكون بانتصار البلتاجية على البلطجية، عسى أن يكون قريبا.

أضف تعليقك