ذكر الأستاذ فتحي يكن رحمه الله في كتابه (المتساقطون على طريق الدعوة) العوامل التي تؤدي إلى هذا السقوط، وقسمها إلى ثلاثة أقسام كبيرة.
فأولها ما يتعلق بالتنظيم نفسه من إدارياته وقراراته وقياداته، وثانيها ما يتعلق بالفرد من ضعف صلته بالله وجبنه وإيثار العاجل على الآجل وغيره، وثالثها ما يتعلق بالمحيط الخارج عن التنظيم والفرد.
وأنا هنا أختلف مع الأستاذ الكبير، وأرى أن العوامل كلها تعود إلى الفرد أو إلى التنظيم، أما المحيط الخارجي فالطبيعي أن يكون ضاغطاً على أهل الدعوات، والمنتظر من أهل الدعوات المخلصين أن يصبروا ويثبتوا ويدافعوا ذلك الواقع الضاغط؛ حتى تكون لهم الغلبة أو الأجر، وهذه هي سنة الله في الدعوات، أما إن ضعفوا وانهزموا أمام ذلك المحيط الخارجي الضاغط، فالعيب في ذواتهم وتنظيماتهم.
إذن فمردّ كل هذه العوامل التي تؤدي بالفرد إلى السقوط يكون إلى الفرد نفسه أو إلى تنظيمه وجماعته.
فإذا أردنا أن نتحدث عن العوامل التي تساعد على #الثبات، فإن هذه العوامل لا بد أن تكون مشتركة بين الفرد والدعوة على حد سواء.
فأما عن أهم عوامل الثبات المتعلقة بالفرد فهي كما يلي.
- حسن الصلة بالله.
فإن لم يكن مبعث الفرد للحركة داخل جماعته ودعوته وحزبه مبعثاً إيمانياً فيه تعلق دائم بالله وثوابه واستحضار دائم لمعيته وشهوده فلا خير فيه ولا في عمله، وجهده إلى زوال، وثباته على الطريق في دائرة المحال، فالله عز وجل لا بد أن يكون هو مبتدانا ومنتهانا وغايتنا.
ولا بد من الاستعانة على ثقل الدعوة وإدارياتها ومتعلقاتها بالعبادات والنوافل، وكلنا يعلم كم لهذه العبادات وهذه النوافل من فعل السحر في الفرد وفي نشاطه وثباته، فقراءة القرآن والذكر والصيام والقيام تعتبر الزاد الأول لأهل الدعوة، وهي المنطلق إلى رحابها، وبغيرها يغدو الفرد خواء ينسحق أمام أضعف الضغوط، ولا يستطيع جهاداً ولا دفاعاً.
والثبات لا يكون إلا من الله، وعلينا طلب ذلك منه في دعائنا وتوسلنا إليه.
- الفهم
وقد أحسن الإمام البنا رحمه الله إذ جعل الفهم هو الركن الأول من أركان بيعته العشر، فلا بد للفرد في دعوته وجماعته أن يتيقن أنها لا تنتهج إلا منهج الإسلام بلا زيادة ولا نقصان، ثم لا بد له أن يدرك بعد ذلك أن العمل الجماعي قد غدا في حكم الضرورة لخدمة هذا الدين، ففيه تضافر الجهود للوصول إلى المبتغى، ولم يُهزم الإسلام إلا بعمل منظم، ولن يعود إلا بعمل منظم كذلك.
وكذلك عليه أن يفهم أن من أبجديات العمل الجماعي السمع والطاعة لما كان بشورى، وأن رأيه الشخصي يكون قبل الشورى، فإذا كانت الشورى فليس إلا رأي واحد هو رأي الجماعة، وعندها تنزوي الآراء جميعها .
وكذلك عليه أن يفهم أن هناك ضريبة لا بد أن يدفعها من أجل الثبات، وهي ضريبة الصبر على المماحكات والحسديات التي تحدث في أي عمل جماعي سواء كان لدنيا أو لدين، فهذا من بشريتنا التي لا نستطيع منها فكاكاً.
- العلم والمعرفة
فما أعظم العلم هادياً ومثبتاً، وما قيمة الحركة والدعوة بغير هدى العلم، وإنه لمن أعظم المثبتات على طريق الدعوة أن يوغل الفرد في العلم والمعرفة؛ العلم المتعلق بالدعوة، فيقرأ في تاريخ الحركات والدعوات، ويقرأ كذلك في فقه الدعوة، وهو الفقه المتعلق بالعمل الجماعي المنظم، الذي وُضع على يد أساطينه؛ الأستاذ الراشد والأستاذ فتحي يكن والأستاذ مصطفى مشهور وغيرهم.
وأن يقرأ قبل ذلك تاريخ وسيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فهي سيرة الداعية الأعظم والمعلم الأول، الذي لا بد أن يسير على هديه كل تلامذته من أهل الدعوة من بعده.
- الإخلاص والتجرد
الإخلاص في كل عمل هو رأس الأمر، والأخ المسلم في العمل الجماعي المنظم لخدمة الدين أحوج من غيره لهذا الإخلاص، فالعمل الجماعي المنظم فيه القيادة التي تتطلع إليها النفوس بحكم طبيعتها وبشريتها.
ولا بد أن يكون حديث النفوس دائما أين نحن من الله، لا أن يكون حديثها أين نحن من الجماعة وقيادتها، فما الجماعة إلا وسيلة للوصول إلى الله، وأكبر الخسران أن تصبح الوسائل هي الغايات .
وأما عن أهم الأسباب المعينة على الثبات والمتعلقة بالتنظيم فهي.
- إعمال الشورى في كل صغير وكبير.
فالشورى هي العاصم من كل زلل بإذن الله، وهي الطريق الوحيد الآمن للوصول إلى الصواب والأفضل، أو على الأقل هي أفضل الطرق وآمنها.
ولم نعد أبدا في زمن المسئول الفرد الذي يرى ما يراه دون رقيب أو حسيب.
لذا لا بد من إعمال الشورى في كل صغير وكبير، وبها يكون السمع والطاعة، وإلا فلا سمع ولا طاعة.
- حسم قضية أهل الثقة وأهل الكفاءة.
الواقع الممارس في داخل الكثير من الجماعات والحركات ما زال بعيداً عن ما يُرتجى في كثير من الأمور، وما زلنا في الكثير من مواقعنا الإدارية ومستوياتنا التنظيمية نقدم أهل الثقة على أهل #الكفاءة، وهذا من أكبر الخلل.
ولا يصح أن يُبحث دائماً عن أهل الثقة المطلقة، الذين لا يناقشون ولا يراجعون، وليسوا من أهل الكفاءة والخبرة، فلا يقولون إلا آمين إن أشار لهم القادة داعين.
- الشفافية وإعمال المحاسبة.
لا يجوز أبداً أن يكون هناك إلى الآن ثمة سرية في أي شيء، ولست أعرف أن ذلك موجودا، ولكني أحذر منه أشد التحذير.
ثم إنه لا بد من إعمال آليات التحقيق والمراجعة والمحاسبة في كل شئ، وكما قلنا مراراً: الثقة المطلقة مفسدة مطلقة، وليس معصوما إلا النبي صلى الله عليه وسلم.
وإن أكثر ما يُخاف منه أن تكون المحاسبات والمراجعات لأهل المكانة الدنيا داخل الحركات والتنظيمات، أما القادة والمسئولون الكبار فتكون لهم #الثقة والمحاباة، وقد حكى النبي صلى الله عليه وسلم عن أمة من الأمم الضالة، وما كان سبب ضلالتهم إلا أنهم ( كانوا إذا سرق فيهم القوي تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد).
- عدم الإغراق في السياسي والإداري على حساب الدعوي والتربوي.
شمولية الإسلام هي من أهم خصائص الجماعات المباركة، غير أن التوازن بين كل جوانب العمل الشامل تبدو صعبة جدّ صعبة، وخصوصا أن جوانب العمل المختلفة هذه منها الجاذب للنفوس الذي يطغى على حساب الجوانب الأخرى.
فمثلا العمل السياسي برغم ثقله وتبعته إلا أنه له جاذبيته ومذاقه، وقد يغدو كل العمل في الجماعة في فترات كثيرة كأنه عمل سياسي لا غير.
وكذلك العمل الإداري والتخطيطي داخل الجماعة يستولي على جزء عظيم من الأوقات.
إن الترتيبات السياسية والإدارية تكاد تستهلك الجماعات وتسحب البساط من تحت الجانب الدعوي والتربوي.
وهذا ما يجعل الكثيرين من أبناء الجماعات كأنهم أعضاء حزب سياسي، فالضعف التربوي وتجاهل الجانب الدعوي يكون سمتهم وحالهم.
وهنا يكون الخواء والضعف، فينهار الفرد أمام أضعف الخطوب والنوازل.
أضف تعليقك