كنت أتطلع إلى الحديث المستفيض عن الداعية الأمثل والباحث الأكمل أبي الحسن الندوي؛ ولكني أمتنع فجأةً لأني أعلم أن ما بنفسي نحو الرجل لن يُنقل إلى القرَّاء إلا مبتورًا مبتسرًا، لا يمثل حقيقة مشاعري الصادقة؛ إذ هي أقوى وأشد من أن تظهر على حقيقتها من السطور، مهما حاولت تتبعها الراصد، ثم طلب مني أخي الأعز الأستاذ الدكتور عبد القدوس أبو صالح نائب رئيس رابطة الأدب الإسلامي أن أكتب سيرة أبو الحسن الذاتية، وأنا أعرف تهيبي الشديد من الحديث عنه، وكدت أعتذر ولكن تكليف الدكتور الصديق لي هو أمر لا رجاء، فقلت: سأكتب ما أستطيع كتابته، وما عليَّ إذا لم أستطع أن أقوم بغير ما أطبق إذ لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها.
وكان أشد ما يلفتني في سيرة أبي الحسن أنه أشرق في محيط العالم الإسلامي بدرًا مكتملاً، فعهدنا بصاحب الفكرة وعاشق البحث أن يتبع سنة التطور، فيبدو ناشئًا صغيرًا، ثم تمر به الأعوام حتى يكتمل نضوجه، كما يبدو البدر في أول الشهر هلالاً، ثم يسير نحو الكمال حتى يبزغ إشراقه في الليلة الرابعة عشرة؛ ولكن أبا الحسن أصدر كتابه باللغة العربية "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟!" في مطلع حياته الفكرية، فكان حدثًا هائلاً في دنيا الفكر؛ لأنه رجَّ القراء رجًّا، وكأنه نفخ في الصور فأحيا نفوسًا، وأشعل أرواحًا، وأخذ الناس يقرءون مبهورين يخافون أن تنفد صفحات الكتاب، فلا يستشعرون هذه اللذة الروحية بعد انقضاء الصفحات؛ وفيهم من كان يقرأ الصفحة والصفحتين، ثم يطوي الكتاب دقائق معدودة ليصعد زفرة مكتومة، أو يعلن آهةً موجعةً، وأشهد أمام الله أن بعض الصفحات التي كانت تصور فجائع المسلمين على أيدي أعدائهم، وطغيان العتاة على بلادهم كانت تضع فوق كاهلي- وأنا أقرأ- أطنانًا من الحديد والصلب، فلا أستطيع أن أتحرك إلا بعد أمد يقصر أو يطول.
هذا الكتاب الخالد قد رجَّ القراء رجًّا، والعجيب أن أستاذنا الدكتور أحمد أمين قد كتب مقدمة الكتاب في طبعته الأولى دون أن يقرأه، وأجزم عامدًا أنه لم يقرأه، وإلا لما قال: إن بعض عبارات الكتاب ضعيفة؛ لأن المؤلف يكتب بغير لغته، والكتاب في المنزلة العليا من الأسلوب البياني المشرق وتعبيره الساحر، لا يبلغه باحث كبير كالدكتور أحمد أمين؛ لأن صاحب فجر الإسلام وضحاه وظهره باحث مؤرخٌ، لا يملك سحر الأسلوب الذي يتمتع به صاحب "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين"، ولقد قرأت في بعض ما كتبه أبو الحسن أن هذه المقدمة قد أضعفت الكتاب، وأقول: إن هذا تخيل فقط؛ لأن القارئ النبيه قد عرف بعد هذه العبارة عن الصواب وهو مقياس الحكم، أما القارئ الذي لا يفرِّق بين أسلوب وأسلوب، فسيان أن يصدق أو أن يكذب.
وقد توالت طبعات الكتاب حتى بلغت بضع عشرة طبعة، وأغفلت مقدمة الطبعة الأولى؛ حيث قام الأساتذة الكبار محمد يوسف موسى وسيد قطب وأحمد الشرباصي بكتابة مقدمات صادقة شفت صدور قوم مؤمنين، وأذهبت غيظ قلوبهم، ولا أنكر فضل الدكتور أحمد أمين حين احتفل بالكتاب وطبعه في مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر التي يرأسها؛ فكان صدور الطبعة الأولى عن هذه اللجنة ذات المستوى العلمي الباهر نصرًا من الله وفتحًا قريبًا، اتصلت بعده الفتوح الممتدة لأن فكر أبي الحسن كالشجرة الطيبة ذات الثمر المستطاب تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، ويضرب الله الأمثال للناس.
لم يتح لأبي الحسن أن يكتب هذا السفر الرائع في مطلع شبابه، دون أن يعتمد على موهبة رائعة ممتازة، جرت من عقله مجرى الماء في فروع السرحة الفينانة ذات الظل الوارف، ودون أن يعتمد على نشأة علمية باهرة، وأعرق منازل الفضل بالهند، وأخصب منابت العزة والكرامة والشموخ، ودون أن يعتمد على اطلاع شامل محيط في كتب متعددة ولغات متنوعة، اطلاع ناقد يعرف سطور الحق فيجتبيها، ويطرد سطور الباطل إذ يحتويها ومن وراء ذلك كله روح إسلامية عالية هي قبسة من قبسات رجال الصدر الأول من تاريخ الإسلام، فقد عايش أبو الحسن هؤلاء الرجال معايشة العاشق المولع بكل ما يقرأ من أمثلة التضحية والفداء ونماذج الإيمان والإيثار؛ فكانت سير هؤلاء ومن تبعهم بإحسان ضياءً لروحه قبل أن تكون غذاءً لفكره، وقل ما شئت في تلميذ نابغة، أساتذته الأكرمون رسول الله، وصحابته المختارون مع من وليهم من أئمة السلف الصالح خلفًا عن سلف؛ حتى انتهت السلسلة الرابعة إلى والده الكريم، وكلهم خيار من خيار.
وُلد أبو الحسن بقرية "تكية" من قرى الهند في المحرم سنة 1332هـ، فنشأ في أسرة عربية كريمة، ترجع بأصولها العريقة إلى الحسن بن علي رضي الله عنه، أصولها التي ظلَّت تتناسل في أكرم بقعة في الأرض من مكة التي شرفها الله بالبيت العتيق، وبكونها مشرق الإسلام ذي الهداية الإنسانية التي أخرجت العالم من الظلمات إلى النور، ثم انتقلت إلى المدينة المنورة حقبة من الدهر، حتى كان مطلع القرن السابع الهجري، فرأى عميد الأسرة إذ ذاك السيد قطب الدين ابن محمد المدني رؤيا منامية أوحت له أن ينتقل من المدينة المنورة إلى الهند مجاهدًا في سبيل الله، وقد صدع الرجل بالأمر على مشقة الهجرة والنزول في أماكن لم يعرفها من قبل؛ ولكنه اطمأن حين وجد الاستقبال الكريم، وحين ذاع فضله فيما تناول من أحاديث الدعوة، وشروح الفقه، وقد تبوأ مكان الصدارة في مهاجره، واشتهر أبناؤه ومن وليهم بالدعوة إلى سبيل الله عملاً بالارتحال إلى أقصى البقاع، مذكرين بأيام الله وبحثًا بالتأليف العلمي في فروع اللغة والشريعة.
ولو بحثت عن المكتبة الإسلامية بالهند؛ لنطقت بآثار هذه الأسرة الماجدة حتى جاء يوم بزغ في سمائها نجم سلطان المسلمين أحمد بن عرفان، وهو عالم بطل لو تعارف المسلمون في بقاع الأرض سير رجالهم في الوطن الإسلامي الكبير وطن الإسلام؛ لكان اسم أحمد بن عرفان الشهيد يتردَّد في آفاق آسيا وإفريقيا كما يتردَّد أسماء شهداء الإسلام من لدن العصر الأول إلى الآن، لقد تطلع الشهيد المغوار إلى ما حوله فأزعجه أن يرى ويسمع عن فظائع طائفة السيخ في البنجاب، إذ أقدموا على قتل الأبرياء من المسلمين، وهدم المنازل، وهتك الأعراض، فغضب لدين الله ولإخوته في الإسلام، ورفع راية الجهاد، واستنصر الأبطال من كل صوب، فهرعوا إليه ملبين، وبويع بالإمارة في جمادى الآخرة 1242هـ، ثم قاد الجيوش من نصر إلى نصر حتى إذا أعيت أعداءه الحيلة لجئوا إلى الدس حين هالهم أن ينشئ الإمام أحمد دولة الإسلامية وحميته، وبقيت أربع سنين ترفع راية الإسلام حتى ارتاعت بريطانيا، وأمدت السيخ بالسلاح الأوروبي الحديث، ثم استعانت أيضًا برجال السوء ممن جهلوا خبث المحتل، وأغراهم المنصب والذهب والجاه، فجعلوا يثيرون الفتنة، ولجأ الإمام إلى كشمير مجاهدًا؛ ولكن اجتماع الإنجليز والسيخ والطابور الخامس من المنافقين قد كان أكبر من أن تصمد أمامه القلة المؤمنة؛ ولكنها آثرت الاستبسال على الفرار، واستشهد الإمام في معركة "بالاكوت" استشهاد الحسين في كربلاء وهي مآسٍ تتكرر على مر الزمن دون اعتبار.
إن تاريخ ابن عرفان لم يذهب عن خواطر المسلمين جميعًا بالهند؛ ولكنه رسخ رسوخ الطود في أسرته الكريمة، فجعلت تتناقل آثاره، وتتحدث عنه ثم دونت أخباره، وكان والد أبي الحسن أحد العلماء الأفاضل الذين كتبوا تاريخ الشهيد، وهو لم يكتب تاريخ الشهيد وحده؛ ولكنه سجل تاريخ الأفذاذ من المسلمين على مرِّ العصور في كتابه الرائع "نزهة الخواطر" ذي الأجزاء الثمانية، وقد اشتمل على نحو خمسة آلاف ترجمة لأعيان المسلمين في الهند، وأبو الحسن وإن لم يتمتع برعاية والده العلمية غير أمد قصير، إذ انتقل والده إلى لقاء ربه وهو في التاسعة من عمره؛ فإنه وجد في هذه الموسوعة الثمينة خير زاد لروحه، لقد قرأ عن أفذاذ المصلحين قراءة جعلته يتهيأ لدور كبير يضيف به ترجمةً حافلةً إلى هذه التراجم.
ولم تكن "نزهة الخواطر" هي سلواه المختارة وحدها في عهد اليفاعة، بل دفعته إلى مثيلاتها في التراث الإسلامي وفي كتب التراجم والطبقات، وهذا البحر الزاخر من المعارف التاريخية يحيي النفوس المتعطشة، ويدفعها إلى الاحتذاء الحسن لا سيما إذا كان القارئ أبا الحسن ذا النفس المتوثبة الطامحة للعلاء، ونحن نرى أمثلة شتى في كتب أبي الحسن قطفها من حدائق هذه الكتب، وكم قرأها أناس من قبله ومن بعده؛ ولكنهم لم يحسنوا استغلالها على النحو الذي اهتدى إليه الشاب البصير، وإذا أردنا أن ننشئ شبيبةً واعيةً تعرف الإسلام الصحيح في سير رجاله؛ فعلينا أن نكتب هذه التراجم المجيدة بلغة العصر لنفتح الأبواب الفسيحة إلى من يريدون التنزه في بساتين الأجداد وهم كثيرون.
إن رحمة الله عز وجل تسع كل شيء فحين حُرم أبو الحسن من رعاية والده العالم العامل البحَّاثة، لم يحرم من رعاية اثنين عزيزين أثيرين؛ هما أمه وأخوه، أما أمه فكانت قارئة كاتبة شاعرة جمعت هذه المزايا في عصر كان أكثر المسلمات شرقًا وغربًا لا يلتفتن إلى تعليم، ومن تتعلم منهن تقف عند حد محدود لا يتجاوز معرفة القراءة والكتابة، إلا من نشأن في أسر الفضل والفضيلة؛ مثل والدة أبي الحسن، كانت الوالدة الفاضلة تحفظ القرآن الكريم، وتقرأ تفسيره في كتب التراث، كما كانت تكتب المقالة، وتنشئ القصيدة، وفي هامش ص24 من مقدمة كتاب "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين": أنها طبعت عدة كتب ومجموعات من الشعر، كلها مناجاة لله تعالى، ودعاء ضارع، كما أرسلت مدائحها في رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وقد كنت أرجو أن أقرأ بعض ما كتبت ونظمت؛ ولكن يدي لم تصل منهما إلى شيء، هذا بعض ما يقال عن الأم الكريمة.
أما الأخ الشقيق؛ فهو الدكتور السيد عبد العلي عبد الحي، وقد جمع بين الثقافة الدينية والثقافة العصرية، فكان إلى تعمقه في بحوث الدين مثقفًا عارفًا بالتيارات الفكرية المعاصرة في العالم، وكانت مكتبته ملأى بالأسفار في الاتجاهين، وهذا من حظ أبي الحسن الدارس الناشئ؛ لأنه وجد من وجهه إلى القديم والجديد معًا، وقد ظهر أثر ذلك في نتاجه العلمي الحافل؛ لأن نظرته الشاملة الناقدة لوجوه المفاسد في الشرق والغرب معًا لم تأت إلا من اطلاع شامل على مختلف التيارات المتعارضة، ونحن نجد لدينا قومًا ينكرون المفاسد الغربية؛ ولكنهم لم يبلغوا مبلغ أبي الحسن في هذا المجال؛ لأنهم لم يقرءوا ما قرأ عن هذه المفاسد، وإذا قرءوا لم يرزقوا الفكر الثاقب، والروح العالية والقلم الصّوال، ونحن نجل هذا الأخ، ونعرف فضله في رعاية الأخ اليتيم.
وإذا كنا لم نطلع على شيء من آثار الوالدة الكريمة؛ فقد اطلعنا على بعض آثار الأخ الأديب العالم؛ ومن بين ما قرأناه في مجلة (الرسالة المصرية) مقالاً تحت عنوان "أسطورة"، والمقال يدل على أن الأخوين العزيزين يصدران عن منبع واحد، فحديث السيطرة الغربية، والتخلف الحضاري في الشرق، وانهماك المترفين في الملذات، دون نظر إلى النفع العام؛ هو شبيه أحاديث أبي الحسن وكنت أود أن اقتبس منه سطورًا تنطق بما أعنيه؛ ولكني لا أعجب بعد قراءة مقال أسطورة أن يكون كاتبه هو الشقيق الذي تولى رعاية أخيه، وطبعه بطابعه الإسلامي الحار المتوهج، والشقيقان- بعدُ- أثرٌ من آثار الأب المجاهد والوالدة الكريمة الشاعرة، وقديمًا قال القائل الحماسي:
أرى كلَّ عرق نازعًا لأرومة أبي نسب العيدان أن يتغيرا
وفي الثانية عشرة من عمره، بعد رحيل والده الكريم بثلاثة أعوام، وجَّه الأخ الأكبر أخاه إلى تعلم الإنجليزية والعربية معًا فوق تعلمه للأردية، وهو توجيه منتظر من أستاذ يعرف فائدة الاطلاع المستوعب للتيارات المتضاربة في الشرق والغرب؛ حتى إذا بلغ من اللغتين حد الإجادة على يد أساتذة من الفضلاء، دفعته نوازعه الإسلامية إلى التضلع من الأدب العربي، وكان فضل الله عليه عظيمًا، حين لم يتجه إلى نفر من كتاب الخلابة اللفظية في عصور الصنعة البديعية، بل اتجه إلى كتب أربعة هي: "كليلة ودمنة" لابن المقفع، و"نهج البلاغة" للإمام علي، و"دلائل الإعجاز" لعبد القاهر الجرحاني، و"حماسة أبي تمام"، وهي كتب تنشئ أديبًا في مثل سنه؛ لأن كليلة ودمنة، ونهج البلاغة، مثلان للأدب الإبداعي، ودلائل الإعجاز مثل رائع للنقد البياني المستنير، أما حماسة أبي تمام فهي في رأيي من أبدع المختارات الممتازة في الشعر العربي القديم.
وبعد هذا التضلع من التراث التحق أبو الحسن بجامعة "لكهنؤ"؛ وهي جامعة تدرس العلوم المدنية باللغة الإنجليزية، وفيها قسم لآداب اللغة العربية، اختاره أبو الحسن عن شوق ووجد من أستاذه الدكتور تقي الدين الهلالي المراكشي رائدًا بصيرًا يهدي للتي هي أقوم في استيعاب التراث الأدبي للغة العرب، ومن بعد الجامعة التحق بالندوة ليلاقي كبار العلماء في الهند من أساتذتها، وليحضر دروس الشريعة عليهم، ولم يَرْوِ ظمأه من ذلك كله، بل دفعه هيامه بالمعرفة إلى الالتحاق بدار العلوم بديوبند مدة شهور، وكأنه رأى أنه ألم سلفًا بمقرراتها، فاقتصر الأمد، ثم سافر إلى "لاهور"، وقرأ التفسير القرآني على كبار علمائها، وتحققت أمنيته السعيدة بلقاء شاعر الإسلام محمد إقبال، فحرص على مجالسته والإفادة من توجيهه، وهي صحبة عادت عليه بأجزل النفع علمًا وسلوكًا، وسأخصها قريبًا ببعض التفصيل.
أما بذرة الأديب المتطلع إلى السبق، فقد برزت في هذا الأمد- أمد الطلب العلمي والتحصيل الثقافي- إذ دفعته همته الوافية إلى كتابة مقال تاريخي، وهو في سن الثامنة عشرة يتحدث عن جده المجاهد أحمد بن عرفان شهيد الإسلام وإمام أهل التوحيد، وقد ألمحنا إلى بعض حديثه من قبل، وقد كتبه باقتراح من أخيه، فصادف إعجابه، وبعث به على مجلة (المنار المصرية) التي يقوم على إصدارها حجة الإسلام في هذا العصر السيد محمد رشيد رضا، وهي ذات صدى مسموع في ربوع الإسلام، فوجد السيد رشيد في المقال ما يرشحه للنشر عن إعجاب، وكان أول مقال كتبه الأديب الناشئ، ولا شك أن نشر المقال في هذه المجلة الممتازة قد بعث في نفس أبي الحسن ثقةً تمده بالعزم الطامح والجد المثابر، إذ وجد (المنار) تضعه في صفوف كتابها، وإذا كانت أعداد (المنار) التي تصل إلى الهند ذات قدر محدود، فقد عرض أبو الحسن على أن ينشره مستقلاًّ في رسالة طبعها تحت عنوان "ترجمة السيد الإمام أحمد بن عرفان الشهيد"، وقد ظهرت في سنة 1350هـ، فأحدثت صدى قويًّا بين العلماء والباحثين، وكانت بمثابة فجر صادق يبشر ضوؤه المشع بقدوم صبح مبين.
اهتدى أبو الحسن بعد نشر مقاله بـ(المنار) إلى صميم رسالته التي يجب أن يحملها إلى العالم جميعه لا إلى العالم الإسلامي وحده، هذه الرسالة هي: الدعوة إلى الله كاتبًا ومتحدثًا؛ أما كاتبًا فقد ظهرت بشائر توفيقه فيما كتب بـ(المنار)، وفيما نشر بصحف الندوة، وأما متحدثًا فقد ألف على حداثة سنه أن يصعد على المنبر خطيبًا، وأن يحادث المستمعين في الندوة محاضرًا فيحظى بالقبول إن لم يكن يحظى بأكثر من القبول، وذلك وحده زاد يعين المدلجين على السير في ظلمات الطريق.
-2-
قلت: إن أبا الحسن أَلِف أن يصعد المنبر خطيبًا، وذلك توفيق من الله إليه على يد أحد أساتذته، فقد سافر إلى "دلْهى" في رحلة علمية، فشاءت المصادفات السارة أن يلتقي بداعيتها المجدد الكبير الشيخ محمد إلياس، والشيخ إلياس لا يعتمد في دعوته على الكتابة الصحفية أو التأليف العلمي؛ ولكنه يرحل إلى الجماهير في كل مكان، فينتصب واعظًا مرشدًا يتفجر البيان من جوانبه، كما ينبثق الماء من النبع الصافي، وهو رحالة لا يهدأ، تراه كل يوم في قرية أو مدينة يقابل بالتجلَّة والترحاب، وتنتظر الجموع هدية كما تترقب الأرض الجديبة نمير الماء، وقد تتصل الرحلة إلى هذه الربوع المتجاورة شهرًا أو شهرين، دون أن ينقطع يومًا واحدًا عن ارتقاء المنبر، وترديد الإرشاد، وأبو الحسن يسمع معجبًا مسرورًا، ويروي انفعال السامعين بما يسمعون، فيعلم أن اللقاء المباشر يفوق تأثيره الحماسي ما يكتب في صحيفة أو يرصد في كتاب.
ومن ثَمَّ عزم أبو الحسن على أن يكون داعيةً في المجتمع بلسانه، كما هو كاتب للقارئ في مؤلفاته، وكان أستاذه الشيخ إلياس صادق النية مخلص السريرة، أسلم وجهه إلى الله فعظم تأثيره النفَّاذ، وأصبحت لكلمته التي ينطق بها أشعة من الضياء، تنتقل إلى الوجوه فتملؤها نورًا، وإلى القلوب فتصقلها صقلاً، يطرد عنها نوازع السوء، وهوابط الوساوس، وهنا كان الرجل قدوةً في خلقه، كما هو في وعظه، واعتزم أبو الحسن أن ينحو منحاه، وقد كان منه بمكان قريب، فالمبادئ هي المبادئ، والسرائر هي السرائر، ولم يترك الشيخ حتى صمَّم على أن يدعو بلسانه كما يدعو بقلمه، ووفقه الله في إرشاده اللفظي، إذ كان يملك أسلحته الماضية، بل كان يملك أكثر مما يملك أستاذه؛ لأن الشيخ الكبير خطيب منبر يُحدِّث العامة بما يجذبهم، وليس له سبحات أبي الحسن في مطاوي الأسفار وحواشي المجلدات، فإذا دهشت الجموع إعجابًا به خطيبًا داعيةً، فلنحمد الله أن اجتاب هذا السبيل.
على أن أستاذًا ملهمًا آخر أذكى جمرة الشوق في قلب أبي الحسن، ثم زاد فطار بروحه إلى آفاق رحيبة، تشرق بالنجوم، ويهبُّ بها النسيم المنعش مُحمَّلاً بأطيب العبير، هذا الملهم هو الشاعر العالمي محمد إقبال، فقد كان لقاؤه به في "لاهور" مصدر ارتقاء شعوري، لا يسهل مرتقاه، وكل المثقفين في العربية يقرءون إقبال ويردِّدون مترجماته عن الأردية والفارسية؛ ولكنهم لا يلمسون تأثيرها النفاذ الذي تتموج كهرباؤه في اللغة الأصلية التي نظم بها إقبال، وأذكر أني قلت في قصيدتي عن الشاعر الكبير متحدثًا عن شعره (1).
معانٍ جلتْها حكمةُ الشرق فانثنت تدل على أهل الحجا أيّ إدلال
وتُغمض أحيانًا فتبدو عويصةً كأنك منها واقفٌ بين أجيال
إذا أنقص التعريب بعض بريقها فإنَّ سياق النص يُوحي بإكمال
قلت ذلك قبل أن أقرأ ما حكاه أبو الحسن عن الشاعر إقبال، فقد قدَّمه لقراء العربية خير تقديم حين أصدر مؤلفه اللطيف "شاعر الإسلام الدكتور محمد إقبال" فتحدَّث حديثًا رائعًا عن حياته، وعن العوامل التي كوَّنت شخصيته وآراءه في التعليم والعلوم والجيل الجديد، وحين تحدَّث أبو الحسن عن الإيمان بيَّن هذه العوامل، هذا الإيمان الذي رفع الشاعر عن الاحتفال بمغريات المادة وعن تيار الحضارة الغربية الجارف، ودفعه إلى مقومات الحياة لدى الأمة الإسلامية، كما تغنى بها إقبال مبينًا جناية المدنية الحديثة على الإنسانية، ثم حديثه عن القرآن الكريم، وأثره الضخم في تحديد رسالة الشاعر الكبير، وعن خبرته بالنفس الإنسانية شرقًا وغربًا؛ حين تحدَّث عن ذلك كله خِلتُ أن أبا الحسن يتحدث عن نفسه لا عن إقبال، وليس معنى ذلك أنه أضاف على شاعر الإسلام ما لم يقله، فقد استشهد بنماذج من شعره ليس مكانها في هذه السيرة الذاتية؛ ولكنَّ معناه أن المصلحَيْن العظيمَيْن التقيا على هدف واحد، وأن إقبال قد صدق التعبير عن نفس كل مؤمن صادق الإيمان، بعيد النظر واسع الأمل في عون الله، وكان تجاوب أبي الحسن معه تجاوب حمامتين أليفتين تصدحان بالغناء في دوحة واحدة إذا حنَّت الأولى رنَّ صداها في نفس الثانية، فهتفت بالشجو المديد.
أما مآخذ إقبال على التعليم المعاصر، وأما آراؤه في العلوم والآداب، وأما تصويره للشباب المسلم؛ فيستطيع باحث فاضل أن يشرح كل ذلك مقارنًا بما سجَّله أبو الحسن من آراء تتقارب إن لم تكن تتماثل مع هذه الآراء، ويكفي إقبالاً أن يسجِّل أن المسلم هو الإنسان الوحيد الذي يعد خطرًا على الباطل في كل زمان ومكان، وأن المسلم قد بنى العالم المستنير في الزمن البعيد وهو مهيأ اليوم لإعادة البناء في العالم الحديث؛ وهي عناصر موجزة نجد تحليلها الشافي المبسوط في مؤلفات أبي الحسن على نحو مبهج أنيق.. لقد أحببت إقبالاً قبل أن أفهمه، أحببته عاطفيًّا ووجدانيًّا، ووقفت أمام غوامضه حائرًا، لا أهتدي إلى منار وضيء، ثم قرأت أبا الحسن، وما كتبه عن إقبال، فأحببته وجدانيًّا وفكريًّا، وزالت أكثر الغوامض عن نفسي، وهتفت من أعماقي: رحم الله إقبالاً، وأمد في حياة أبي الحسن، وبارك في عمره السعيد.
رجع أبو الحسن من "دلهي" وفي نفسه قبس من روح شيخه إلياس، كما رجع من "لاهور"، وفي نفسه جذوة من شعلة إقبال، وقد صمَّم على أن يرحل كما رحل أستاذه الداعية؛ ولكن إلى أين يرحل؟ لقد قصر الأستاذ الشيخ جهده على الربوع الهندية وحدها، وقد استيقظت على دعوته من سباتها الطويل، وأوْلى بأبي الحسن أن يرحل لا إلى قرى الهند وربوعها المترامية، بل إلى العالم الإسلامي في حواضره الزاهرة؛ إن العالم الإسلامي في حاجة إلى رحالة مثله يقابل علماءه، ويناقش مفكّريه، ويجتمع مع شبابه، ويدرك أغوار هذه النفوس الحائرة بين أمواج الفكر المضطرب شرقًا وغربًا، وتلك رسالة صعبة هي رسالة جمال الدين الأفغاني من قبل؛ ولكن جمال الدين الأفغاني كان نورًا ونارًا، وأبو الحسن نور فحسب إذ لا يميل إلى إشعال الثورات ولكنه يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة، ويجادل بالتي هي أحسن، كما أشار القرآن الكريم.
لقد رحل أبو الحسن إلى الحجاز مرَّات وإلى مصر والمغرب والشام وتركيا، وزار أمريكا والدول الأوروبية، وطوَّف بأكثر عواصم العالم الإسلامي، وكانت رحلاته عظيمة التأثير؛ لأن اسمه كان يسبق شخصه، وكان أحباؤه وخصومه في الرأي يحرصون على لقائه، فالأحباء ليطفئوا غليل الشوق برؤيته، وليمتِّعوا أنفسهم لكلماته، والخصوم يريدون أن يسمعوا الجديد مما يبدعه كل يوم دون إمهال، وعسى أن يجدوا مجالاً للرد وموضعًا للحوار، والرجل يعرف مكانته من هؤلاء وأولئك، ويلبس لكل حالة لبوسها ويؤوب مؤزرًا بنصر الله.
وقد تحدَّث عن رحلاته في كتب مستقلة، وفي مقالات سائرة، وعبَّر عن شعوره الصادق دون مجاملة للباطل، إذ رأى أن رحلته لا تتم على وجهها الصحيح إلا إذا أفصح عن مراده دون لثام، والحقيقة لا تؤلم إذا سيقت في أسلوب أدبي يترفع عن التعرض، وينأى عن الاستعلاء، وكم كان عجبًا لأبي الحسن أن يدرك أن المسلمين في العالم الفسيح لا يكادون يعرفون شيئًا عن مسلمي الهند؛ فهو يقول في مطلع مقال سجله بمجلة الأزهر (2): "كنت في رحلتي إلى الشرق الأوسط أواجه سؤالاً يتكرَّر ويوجه في كل مجلس، وفي كل مناسبة عن عدد المسلمين في الهند، فأجيب بأنهم أربعون مليونًا (كان ذلك سنة 1380هـ)، فيندهش الناس، ويقول بعضهم: يا سلام، ولولا ثقتهم بالضيف لسارعوا بالتكذيب؛ لأنهم كانوا ينتظرون أن يكون المسلمون في الهند بعدما سمعوا عن موجات الهجرة الكبيرة مليونًا واحدًا، لقد كانت هذه مفارقة لا تفارقني أينما حللت ونزلت، مفاجأةً للطرفين، مفاجأةً للمسلمين عن عدد زملائهم في الهند، ومفاجأةً للمجيب عن استغرابهم، وهناك كانت مفاجآت أخرى فيما يتصل بالمسلمين في الهند، فالذين كانوا يعرفون أن في الهند عددًا كبيرًا من المسلمين على قلة هؤلاء، كانوا يعتقدون أن المسلمين لا شأن لهم في هذا القطر العظيم ليست لهم حضارةٌ خاصة، ولا ثقافة واسعة، ولا آداب سامية، ولا مؤسسات علمية، ولا نشاط، ولا إنتاج في علم وأدب؛ إنما هم أمة أفلست في كل مقومات الحياة، وفي كل ما تعتز به أمة من علم وأدب ودين واجتماع وأخلاق ومروءة، بل كاد البعض يسأل: هل في الهند مساجد؟ هل فيها مدارس دينية؟ هل عندكم علماء؟ هل يوجد من يحسن أن يقرأ القرآن؟ هل فيهم من يفهم العربية؟.
ومضى الكاتب الكبير يجيب في مقاله الرائع عن هذه الأسئلة، ولكنه عاد باللوم على تقصير علماء الهند في القيام بمهمة التعريف بهذا القطر العظيم، ومضى يفصل ما أنتجت الأمة الهندية المسلمة من آثار علمية رائعة في الحديث والفقه والأصول وعلم الكلام والسيرة النبوية، ويعدد أسماء العلماء الكبار من مؤلفي الموسوعات والأجزاء المتتابعة، ويفيض في القول حين يتحدث عما أضافه المسلمون إلى ثروة البلاد، وما قاموا به من إصلاحات، قائلاً في حديثه الرائع: ولقد كان ما اكتسبته الهند من المسلمين أعظم وأغلى مما استفاده المسلمون منها، وكان دخولهم في هذه البلاد فتحًا جديدًا في تاريخها وحياتها ومكسبًا عظيمًا، والبحث شافٍ وافٍ، والرجوع إليه يصحِّح أوهامًا كثيرةً يجب أن تزول.
على أنَّ لأبي الحسن شجاعةً أدبيةً تكاد تكون منقطعة النظير، فهو في كل مكان يرحل إليه يخطب في النوادي العامة، ويلقي المحاضرات الثقافية في ساحات العلم، وينشر ما يريده في أمهات الصحف؛ لأن اسمه الكريم يسبقه، كما قلت من قبل، معلنًا عن قدره العظيم؛ ومن مظاهر هذه الشجاعة الأدبية أنه في مقالاته هذه يرسل نقداته الجزئية لبعض ما لا يوافق عليه مما يرى ويسمع، يرسلها في أمهات المجالات المقروءة؛ ليصدع بكلمة الحق دون محاباة، أذكر أنه زار مصر في سنة 1950م، وخالط كتابها ومفكريها، وعقد ندوات ممتازة بجمعية الشبان المسلمين وغيرها، ثم عنَّ له أن يكتب في مجلة (الرسالة) كلمة تحت عنوان "اسمعي يا مصر"، بدأها بالإشادة بما رآه من محاسن، ثم وجَّه الأمة المصرية إلى رسالتها الحضارية في إفهام الغرب ما يجهله من مزايا العرب والإسلام؛ لأنها بكتابها وجامعاتها ومفكريها أقدر بلد يقوم بهذه الرسالة؛ حتى إذا انتهى من ذلك، جاهر بنقداته الجريئة في مثل قوله (3).
"احرصي يا مصر على رجولة أبنائك وأخلاقهم، وصوني شبابهم وشرفهم ودينهم وصحتهم من أن يعبث بعها العابثون، أو يتَّجر بها المتَّجرون ممن يعيشون على أثمان الأعراض والأخلاق، ويحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا؛ لتروج بضاعتهم، وتزدهر تجارتهم، أولئك هم أصحاب الروايات الخليعة والصور العارية والأدب المكشوف، كافحي يا مصر الوباء الخلقي الذي يقضي على حيوية الأمة، وطاردي كل من يحاول أن يزعزع العقيدة في شعبك إن العالم العربي قد أحلك من نفسه محلاًّ رفيعًا، ووضع ثقته فيك فلا تصدري إليه من أدبك وموضوعاتك ما يرزأه في إيمانه وأخلاقه إن هذه الروايات الخليعة والأدب الماجن أفسد وأضر بالأمة من الحبوب المسمومة والفواكه الموبوءة، إن القارة الإفريقية لا يزال جزءٌ كبيرٌ منها على فطرته، وهو حقل لجهودك وتربيتك فأرسلي إليها دعاتك المبشرين لتُنقذي نفوس هؤلاء، وتكتسبي قلوبًا تكون خيرًا لكِ من الأمم الغربية التي تخطبين وُدَها، وتحرصين على صداقتها، وهي لا تدوم على حال".
وأذكر أن مقال الأستاذ الكبير قوبل بالاستحسان، وفسحت له المجالات الملتزمة مجال التحليل والتعقيب حين رأت فيه صيحة مخلصة يقوم بها مرشد أمين.
هذا في مصر، وكذلك في غيرها من الدول التي سعدت برحلة الأستاذ الكبير إليها أذكر أنه في زيارته لعمَّان عاصمة الأردن عقد ندوة تتحدث عن "حيرة الشباب المسلم أسبابها وعلاجها" (4)، فكان الرجل صريحًا كعادته حين جعل من أسباب هذه الحيرة التناقض الصريح في التوجيه والإعلام والتربية؛ "لأن الشاب يجد في تقاليد بيته المسلم ما يسمع نقيضه في الصحف والمجلات، بل قد يسمع في المدرسة ما لا يتفق وتعليم الإسلام، فيقع في صراع فكري عنيف، وقد يقرأ صحيفة يحررها غير مسئول عن دينه وشرف أمته؛ فيجد بها ما يدعو إلى الغرابة والإلحاد، وقد شاعت بدعة القديم والجديد لترمي تراثنا بكل تأخر، وتدفع إلى محاكاة أعدائنا في كل ما يقترفونه، وهذا كله يحتاج إلى قلب نظام التعليم رأسًا على عقب، يحتاج إلى أناس لديهم الأصالة الفكرية، فلا يعيشون في عزلة عن الشباب، ولدينا نحوهم كثيرٌ من سوء التفاهم من الانحراف، وذلك يحتاج إلى مخططات دقيقة، مخططات علمية مدروسة تحتاج إلى أقلام بليغة، ولست متشائمًا ولا يائسًا؛ ولكني أدعو إلى الإصلاح".
وقد يكرِّر الأستاذ ما قاله في دولة زارها من قبل، لا لأنه لا يجد ما يقوله، بل لأنه يجد الداء مشتركًا، والطبيب حين يكتب دواءً مماثلاً لمريضين يعانيان من حالة واحدة؛ لا يكون مكررًا للدواء بل يضع الأمر في موضعه الصحيح، وقد كانت المملكة العربية السعودية ذات نصيب كبير من رحلات الأستاذ؛ لأنها أقرب البلاد إلى قلبه؛ ولأن الإسلام بها يجد متنفسه الذي لا يجده في دول شقيقات، وقد حظي بلقاء الملك فيصل، وقدَّم له خطابًا يحمل مقترحات مخلصة صادفت قبول الملك الكريم.
وهكذا كان أبو الحسن يرحل ليدقَّ الناقوس؛ فهو سفير متنقل في بلاد الإسلام، ولا أنسى أن أشير إلى كتبه الثلاثة:
1- "مذكرات سائح في الشرق العربي".
2- "من نهر كابل إلى نهر اليرموك".
3- "أسبوعان في المغربي الأقصى".
ففي هذه الآثار القوية بتوجيهها وتشخيصها ونقدها الصائب ما يضع الرحالة الكبير في مقدمة المصلحين الكبار من أبناء هذا القرن دون نزاع، وكم يروع القارئ أن يجد في صفحات هذه الكتب الخالدة أوصافًا دقيقةً لبلاد عزيزة علينا جميعًا؛ هي أفغانستان، وإيران، وسورية، ولبنان، والعراق، والأردن؛ أوصافًا لا تتجاهل ما بهذه الدول من مؤسسات ثقافية وهيئات علمية، ومبلغ تمسكها بالعقيدة الإسلامية، أو مجافاتها في بعض اتجاهاتها، وما أحدث ذلك كله من آثار سلبية.
أما رحلة الداعية الكبير إلى الولايات المتحدة وكندا بدعوة من الطلاب المسلمين في الدولتين، فقد وصفها الكاتب في سفر خاص، وهي ذات مذاق مختلف عن الرحلات الخاصة ببلاد الإسلام؛ لأن المسلمين في أمريكا وكندا محدودو النشاط؛ ولكن عليهم- في رأي الأستاذ- أن يحافظوا على كيانهم الإسلامي في بلاد الغربة، وأن ينظروا نظرةً داعيةً إلى الحضارة الغربية، فيعرفوا أوجه النفع وأوجه الضرر؛ وهم- بعدُ- المثلُ الناطق للمسلمين في مرأى جيرانهم من ذوي الديانات المختلفة، أو ممن لا يدينون بدين مطلقًا، وإذا كانت حضارة أوروبا وأمريكا تجد الدعاية الكافية ذات الإغراء الخالب، فعلينا أن نقيسها بمقياس الحضارة الإسلامية التي تستمدُّ أصولها من شريعة الإسلام، وقد قوبل الداعية الكبير باسمى مظاهر التبجيل، وأقيمت الحفلات المتعاقبة لتكريمه، وما جاء الرجل المتواضع ليتصدر حفلات التكريم، بل قَدِم حاملاً مصباح الهداية لمن يفتح عينيه على النور المبين.
-3-
عاد الأستاذ الداعية من رحلاته المتتابعة لا ليكتفي بانطباعه الخاص، بل ليسجل ما رأى وسمع، والتسجيل لديه لا يعني وصف ما شاهده فحسب، بل لا بد أن يعرض الداء، ثم يكتب الدواء، واطلاع الأستاذ الكبير على روعة الماضي وفداحة الحاضر هذا الاطلاع الشاسع الممتد في آفاق التاريخ الإسلامي في شتى ربوعه ماضيًا، وهذه النظرات المتأملة الممتدة في آفاق العالم الإسلامي حاضرًا، حملت الكاتب على السرعة في العلاج، وعلى النظر الباهر للماضي والحاضر؛ ليصير علاج المريض الهامد الذي كان بالأمس عملاقًا يتوثب نافعًا مصيبًا.
وللأستاذ خيال رائع يقرب به الحقيقة التي يريد أن يتحدَّث عنها، فليس خياله الأدبي تهويمات طائرة في الفضاء، كما لدى بعض من يرسمون الصور الباهتة، دون أن تلفت الأنظار إلى ما وراء الصورة من الحقيقة، وقد قال النقاد وأكثروا من القول بأن وظيفة الخيال تقريب الحقيقة وتدعيمها وتأكيدها، وليست وظيفة الخيال القطع البعيد عن الحقائق والإغراق في تصورات تضل ولا تهدي!.
لقد أراد الداعية الكبير أن يتحدث بعد رحلاته المتتابعة عن المسلمين بين الأمس واليوم، فكتب مقالاً(5) هو من أنفس ما قيل في موضوعه، كتبه تحت عنوان: "بين الصورة والحقيقة"، وهو جدير أن يدرس على الطلاب في جميع المعاهد والكليات؛ نظرًا لمغزاه الدقيق، فقد جعل الأستاذ الصورة البعيدة عن الحقيقة، مثل الثمار المصنوعة من الخزف تتراءى للناظر كأنها تفاح أو رمان أو عنب أو موز أو برتقال في لونها وشكلها؛ ولكن أين الصورة من الحقيقة؟ وأين طعم الثمار ورائحتها؟ إنها ليست إلا للزينة أو المثال؛ لأن الصورة لا تستطيع أن تسد مكان الحقيقة، وتنوب عنها، ولا تمثل دورها فإذا وقع صراع بينهما انهارت الصورة، إذ لا تتحمل عبء الحقيقة إن صورة إسلامنا اليوم وصورة كلمتنا لا تقدران أن تتغلبا على عاداتنا الحقيرة، وتقهرا شهواتنا، إننا نتلذَّذ بكلمة الشهادة والتوحيد، ومنا من يعرف ما يقول؛ ولكن الصورة شيء والحقيقة شيء آخر، إن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا على حقيقة هذه الشهادة؛ فإذا قالوا: لا إله إلا الله اعتقدوا أنه لا إله غيره ولا رب سواه ولا نافع ولا ضار إلا هو، أما نحن فنقولها ونغفل عن معناها حين نرجو الخير من الأعداء، ونترك إله الكون الوهاب.
إن أكبر انقلاب وقع في تاريخ هذه الأمة هو أن الصورة احتلَّت مكان الحقيقة، واستولت على حياة الأمة من عهد بعيد من التاريخ، والذين كانوا يرون الصورة من بعيد، يعتقدون أنها الحقيقة؛ ولذلك يذعرون ويشفقون من قربها، لقد حرس الإسلام المسلمين بالصورة مدة طويلة، فلم يجترئ عليهم أحد، ثم تجرَّأ التتار عليهم في بغداد، وما وليها فانهارت الصورة، وأصبحت عاجزةً عن أن تدفع المكروه، وكل ما نقرأه في تاريخ الإسلام من أخبار انكسار المسلمين وهزيمتهم في ميادين القتال؛ هو أثر انخذال الصورة وفضيحتها لا غير، لقد فضحتنا الصورة في كل معركة أو اصطدام، والذنب ذنبنا؛ لأننا حملنا عبء الحقيقة على الصورة فجاء الخذلان.
هذا المقال الناري (وأرجو ألا أكون أخفقت في تلخيص نقاطه الهادفة) يرسم وجوه الإصلاح إذا أردنا أن نسير في الطريق الصحيح، وقد كرَّر الأستاذ الكبير معناه الرائع في أبواب شتى من تأليفه؛ لأنه يعتقد أن بدء البرء العاجل أن تعرف مكامن الداء القاتل، وها هو ذا قد عرف موضوع الداء ووصف الدواء.
ولكن كيف السبيل إلى النهوض من هذه الكبوات المتلاحقة لقد فكَّر الأستاذ في رجال اليوم وفي بعض شبابه، فوجد التربية المدرسية والإعلامية في أكثر بلاد الإسلام قد ضلت سواء السبيل، إذ خضعت أجهزة التعليم إلى النظام الأوروبي، فأحدثت فجوات هائلة بين عقيدة الطالب المسلم وما توحي به المقررات المستوردة من انفصام عن مبادئ هذه العقيدة، والعلاج الصحيح في خطواته الأولى أن نبدأ بالنظر في أساليب التربية المتخذة دستورًا راسخًا لا تتخطاه بعض هذه الدول، ثم ننظر في تربية النشء وفق مقررات هادفة تعرف طريقها الصحيح، بدل الكتب المترجمة، وأشباه المترجمة بما يضل النشء عن حقيقة تاريخهم المجيد، ودينهم الرشيد.
لقد ألقى الأستاذ أبو الحسن محاضرةً هادفةً في مهرجان ندوة العلماء المنعقد بتاريخ 26/10/1395هـ، تحت عنوان: "أهمية نظام التربية والتعليم في الأقطار الإسلامية" وكلمة الأقطار الإسلامية لا يلتفت إليها إلا أمثال أبي الحسن الندوي ممن يحسون أن العالم الإسلامي وطن واحد، فقد رأينا من أشياع أوروبا من يجزئون الوطن الواحد إلى عدة مناطق، مدعين أن كل منطقة لها بيئتها الخاصة التي تحتِّم أن يقدَّم لها مقرر خاص يختلف عن مقررات جاراتها ومراعاة البيئة وظروفها المحلية، قد تكون نافعةً في علوم الزراعة والتجارة والاقتصاد؛ ولكن كيف يختلف المقرر في مناهج التاريخ واللغة والدين تحت شعار مموه كاذب مفضوح.
لقد التفت الأستاذ إلى خطر التجزئة حين تحدَّث عن أساليب التربية بالأقطار الإسلامية بعامة، فذكر أول ما ذكر أن كثيرًا من التربويين في هذه البلاد يُحكِّمون في مناهجهم التعليمية ومؤسساتهم التربوية نفرًا من الاختصاصيين والمستشارين من البلاد الأوروبية، ثم هم يرسلون البعثات من أبنائهم ليرجع الطلاب ملزمين بما رأوه من المناهج هناك، وكأنها قرآن منزل، فكانت النتيجة وجود طبقة مضطربة العقائد والسير والأخلاق، وهي في أحسن أحوالها مذبذبة بين الفكرة الغربية والفكرة الإسلامية، وفي كثير من الأحيان تنسلخ عما يدين به مجتمعها الإسلامي كل الانسلاخ، إن عملية التربية في أمة من الأمم ليست بضاعة تصدر إلى الخارج، أو تستورد إلى الداخل كالمصنوعات والمواد الخام والمخترعات التي لا تخص بلدًا دون بلد، وإنما هي لباس يفصل على قامة الشعوب، وملامحها القومية، وتقاليدها الموروثة والتربية في صميمها وسيلة واقية مهذبة لدعم العقيدة التي يؤمن بها شعب أو بلد، وتغذيتها بالاقتناع الفكري القائم على الثقة والاعتزاز، وقد دارت مناقشات الندوة حول كلمة الأستاذ، ولاقت من القبول التام ما جعلها موضع التنفيذ المباشر لدى من يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أما رعاية النشء، فذات عبء خاص يجب أن ينهض به كل من يستطيع المشاركة في تحمله، وقد بدأ الأستاذ بتأليف سلسلة كتب خاصة بالأطفال، ثم بمن يعلوهم من تلاميذ المدارس متوسطة وثانوية، وتأليف الكتب للأطفال شاق عسير؛ لأنه يطلب مراعاة العقول الغضة، واختيارها ما يناسبها تعبيرًا وتفكيرًا وتوجيهًا، وقد اقتحم هذا الباب نفرٌ من مقلدة الغرب، فكتبوا للأطفال سلاسل الرعب والفزع وملئوا كتبهم بأساطير المردة والشياطين، وفيهم من حاول أن يقتطع قصصًا من إلياذة هوميروس؛ لتكون غذاء الأطفال في الشرق الإسلامي، ويعد ذلك سبقًًا حضاريًّا لا مثيل له هذا الغثاء المتراكم في كل مكان، قد دفع الأستاذ أبا الحسن إلى أن يكتب للطفل كما يكتب للشباب وكما يكتب للرجل؛ لأنه جندي كان من قدره المحتوم أن يحارب في شتى الجبهات، وقد أصدر سلسلة "قصص النبيين للأطفال" في خمسة أجزاء، جعلها على صغرها في الحجم ميدانًا لغرس الفضائل الخلفية، بل لغرس العقيدة الإسلامية الصحيحة بحيث تغني عن بعض ما يسمى بدروس التوحيد.
وقد قرأ الشهيد سيد قطب بعض أجزاء هذه السلسلة النادرة، وقال في تقديمه: "لقد قرأت الكثير من كتب الأطفال بما في ذلك قصص الأنبياء عليهم الصلوت والسلام، وشاركت في تأليف مجموعة (القصص الديني للأطفال في مصر) مأخوذًا كذلك من القرآن الكريم، ولكن أشهد في غير مجاملة أن عمل السيد أبي الحسن في هذه القصة- يريد قصة موسى عليه السلام- جاء أكمل من هذا كله، وذلك بما احتوى من توجيهات دقيقة وإيضاحات كاشفة لمرامي القصة وحوادثها ومواقفها، ومن تعليقات داخلة في ثنايا القصة؛ ولكنها توحي بحقائق إيمانية ذات خطر؛ حين تستقرُّ في قلوب الصغار أو الكبار".
فإذا تركنا مرحلة الطفولة إلى ما يليها من مرحلة الصبا؛ فإننا نجد السيد أبا الحسن لا يغفل عن توجيه الناشئة في هذه السن الغضة، فقد كتب سلسلة كتب تحت عنوان: (القراءة الراشدة) من ثلاثة أجزاء، فاختار من الموضوعات ما يهدف إلى بناء الكيان الإسلامي الصحيح، ومن التعبيرات ما يصلح أن يكون زادًا للقارئ المتضلع يحفظه، ويحرص عليه ليكون مددًا له في التعبير الصحيح؛ أما قواعد اللغة من نحو وصرف وبلاغة، فقد كلف بعض الأساتذة بالتأليف فيها ورسم الخطة في التيسير، وقام بمراجعة هذه المؤلفات قبل أن يداولها الطلاب.
لقد كان الإمام محمد عبده يرى بعد إخفاق الثورة العرابية في مصر أن تكون التربية الإسلامية وسيلة لإعداد جيل ناشئ ينهض بمكافحة المستعمر الغاصب، كما يفهم أصول دينه على وجهها الصحيح، نادى الإمام محمد عبده بذلك، ودعا المؤلفين إلى إعداد الغذاء الروحي الكفيل بتربية الشبيبة المسلمة، وقد انتظر الأستاذ الإمام طويلاً حتى نهض نفرٌ من المخلصين في تنفيذ خطته، وكان السيد أبو الحسن الندوي في طليعة من قاموا بهذا البحث عن كفاءة تامة، ضربت المثل لكثير من تابعيه، فجعلوا يقتفون أثره مغتبطين.
وقد كان مما يشغل الأستاذ أبا الحسن غذاء الشبيبة من الأدب العربي؛ فقد نظر إلى السائد المشتهر من هذا الغذاء من مختارات المدارس والجامعات، فوجده يقف عند حدود الأدب الصناعي إذا احتلَّ الميدان أمثال ابن العميد والصابي والصاحب والهمذاني والحريري والقاضي الفاضل، وأدب هؤلاء أدب صنعة- في أكثره- واقتصاد الشباب على مطالعة هؤلاء يعتبر إجحافًا بالأدب العربي في أفقه الفسيح؛ لذلك كانت رياسته المباركة لرابطة الأدب الإسلامي العالمي توجيهًا جديدًا لمفهوم الأدب الإسلامي بعامة والأدب العربي بخاصة، وقد لاقت الرابطة في ضوء توجيهاته السديدة من الترحيب والقبول في العالم الإسلامي جميعه ما عقد عليها أكثر الآمال فبدأت تؤتي أكلها بإذن الله.
وقد افتتح أبو الحسن كتابه (نظرات في الأدب) بكلمة ممتازة، تحت عنوان: "نظرة جديدة إلى التراث العربي"، بدأها بالإشارة إلى المحنة القاسية التي أُصيب بها الأدب العربي؛ حين تسلَّط عليه من سماهم بأصحاب التصنع والتكلف الذين اتخذوا الأدب حرفةً وصناعةً؛ ليصلوا به إلى أغراض شخصية محضة، فحجب هذا الأدب فيضًا من الأدب الطبيعي الذي يملأ صحف المكتبة العربية، وقد جاء في بحث ديني أو كتاب علمي أو موضوع فلسفي، جاء في كتب السيرة المطهرة، وفي نصوص الحديث النبوي الشريف، وفيما تركه أمثال أبي حامد الغزالي وأبي الفرج الجوزي وأبي حيان التوحيدي وابن حزم وابن القيم، وأصحاب الرحلات الجغرافية الذين وصفوا الأماكن المشاهدة وصف استقصاء وشمول، وأصحاب التراجم والطبقات من أمثال الخطيب البغدادي وابن عساكر وياقوت وابن خلكان، مؤكدًا أن وصف الشخصية أو ترجمة الذات ليسا من السهولة؛ بحيث يستطيعهما الجميع، ولكن العالم الدقيق والأديب الحسَّاس هما اللذان يقومان بهما على أحسن وجه يتاح.
وقد باشر أبو الحسن فيضًا من هذه التراجم في مؤلفاته البارعة، فتحدث عن رجال الفكر والدعوة في الإسلام في أجزاء أربعة تعتبر موسوعة أدبية حافلة، ومن خصائص المؤلف أنه يفطن إلى مضمون كلمات قد يمرُّ بها القارئ مرًّا عابرًا؛ ولكنها تحمل من المعاني ما يفتح الله به عليه، فيمد قارئه بفيض من الخواطر يعجب كيف أدركه هذا الباحث الحسَّاس.
وقد قرأت ترجمات لبعض من خصَّهم أبو الحسن بالحديث عند من كتبوا عنهم سواه؛ فوجدت الفرق ملموسًا بين ترجمة وترجمة، فمن التراجم ما يكون ملفًا في إدارة حكومة يقدم المعلومات، وكأنها إحصاء حسابي يعتمد على التواريخ والأرقام فحسب؛ ولكن تراجم أبي الحسن ذات نبض حي جذاب؛ حتى ليصلح بعضها أن يكون شعرًا منثورًا، ومرجع ذلك لاعتماده على إحساسه الحي، واختياره من يتفقون مع مشاعره الدينية، وأهوائه الإسلامية ممن صدقوا الله فاجتباهم بفضله، وأذكر أن أبا الحسن جعل الصدق أساسًا للتعبير الجيد؛ فهو باعث الحرارة والنشاط، كما التفت إلى مقاييس أخرى ليس من طبيعة هذا البحث أن يستقصيها؛ ولكني أنتهي من هذه النقطة البارزة في اتجاه الباحث الكبير لأقول: إنه فتح الأبصار على كنوز مكمورة، تراكم عليها الصخر بثقله الضاغط، ونسيها الوارثون من أهلها، بل ربما عدوا كنوزها مزيفة مزورة، لا تصلح للتداول في أسواق الأدب والعلم، فانبرى الأستاذ الكبير ليحفظ لهذه الكنوز حرمتها، وليفسح لها الطريق؛ كي تطمئن في مستقرها المريح!.
قلت: إن أبا الحسن قد يفطن إلى مضمون كلمة يمر بها القارئ مرورًا عابرًا، فلا يهتدي إلى أبعادها الشاسعة وأغوارها العميقة، وأضرب المثل بوقوفه عند كلمة واحدة جاءت في حديث البطل ربعي بن عامر؛ حين واجه قائد الفرس رستم فسأله القائد: ما جاء بكم؟ فقال ربعي على البديهة: "جئنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها"، فقد وقف عند كلمة "ضيق الدنيا" وقفة ما أظن أحدًا وقفها من قبل، فقال فيما قال محللاً قولة ربعي: "إني لأتساءل: ما الضيق الذي كان فيه الفرس؟ وما السعة التي كان فيها العرب؟ لقد قرَّر التاريخ وأجمع المؤرخون على أن الفرس والروم كانوا يعيشون في رغد من العيش، ويتقلبون في أعطاف النعيم، لقد اتسعت لهم الدنيا، ولانت لهم الحياة، أما العرب فيعيشون في شظف، والمدينة لم تتعقد أمامهم بعد، فأين هي السعة؟ إن ربعي بن عامر كان ينظر إلى هؤلاء الملوك والأمراء كما ينظر العاقل إلى دُمى قد كُسيت ملابس فاخرة جميلة، وإلى تماثيل قد أحكمت صياغتها، وتأنق صانعوها في تصوير قسماتها وملامحها؛ ولكنها تماثيل من حجر أو جبس لا حياة فيها ولا حراك بها!.
وكان ربعي- كبقية المسلمين- يتمتع بالحرية التي عرفه بها الإسلام، فنقله من دنيا ضيقة محدودة خانقة، دنيا المعدة والمادة ودنيا الشهوات والأغراض، ودنيا الاستبعاد إلى دنيا القلب والروح، والإيثار والمساواة، والعدل والرحمة، وتلك هي السعة".
هذه سطور تنبئ عن صفحات أبدع الكاتب بها في تحليل كلمة الضيق، وكلها معجب رائق، فهل يصل أحد إلى استبطان هذه المعاني الدافقة من لفظ واحد غير ملهم بصير؟!.
لقد طوفت في حديثي عن أبي الحسن، ونسيت أن أذكِّر في مجال السيرة الذاتية، أنه انتخب أمينًا عامًّا لندوة العلماء، بعد وفاة أخيه الأكبر الدكتور عبد العلي الحسني سنة 1380هـ، وأنه اختير عضوًا مراسلاً في المجمع العربي بدمشق سنة 1375هـ، وأنه دعي لإلقاء محاضرات كأستاذ زائر في جامعة دمشق سنة 1375هـ، واختير عضوًا في المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة سنة 1380هـ، وعضوًا في المجلس الاستشاري الأعلى للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وانتخب رئيسًا لهيئة التعليم الديني في الولاية الشمالية في الهند سنة 1377هـ، وهو بعد ذلك إمام العصر ورائد الإصلاح الديني والأدبي في وطنه الإسلامي الكبير، ولا أقول ذلك دون دليل، فمؤلفاته ساطعة، ومواقفه ناصعة، وألسنة القلوب تهتف بذكره في كل مكان ترفرف عليه راية الإسلام، وما عند الله أوفى وأجزل.
--------------
أضف تعليقك