بقلم: عامر شماخ
فاجأنى صديقي المحبط بسؤال جديد، قال: لماذا ينكفئ الناس عن مواجهة الطواغيت؟ ولماذا لا يقومون قومة رجل واحد لاستبدال العدل بالظلم، والحق بالباطل والديمقراطية بالاستبداد؟
قلت: لأن فيهم إمعات يتبعون هؤلاء الطواغيت، ويقتفون أثرهم ويتخذونهم آلهة من دون الله. ولا تعجب يا صديقى من هذا الكلام؛ فإن من الناس من سكنه الخوف وملأه الخداع حتى صار غافلاً ذلولاً، عينًا على الأكفاء البارّين. ألم تر إلى المغفلين من قوم فرعون الذى لم يعترضوا ولو بكلمة على جبارهم لما قال لهم أنا ربكم الأعلى؟ ألم تر إليهم لما قال لهم ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد وقد عموا وصموا؟ هؤلاء يا صديقى نتاج ثقافة الاستبداد، وبيئة القهر وقد نفروا من الدين والإيمان فأرسل الله إليهم من يفسد عليهم حياتهم، ويبقيهم خزايا صاغرين.
إن الأمم الراشدة يا صديقى لا تنبت الطواغيت، والشعوب المجاهدة لا يرأسها الفراعين (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا) [الأعراف: 58]؛ إنما يسكن الفراعين الجهّال أرض النفاق حيث يجدون فيها تلامذة هامان ممن يزينون للناس الباطل، ويضلونهم عن سبيل الله، فيفشو الكذب، وتنتعش الخيانة، ويصير المعروف منكرًا والمنكر معروفًا، وفى الأرض نفسها هناك أعوانٌ بالمال من تلامذة قارون الذين ينفقون في سبيل دعم الفرعون وإعلاء شأنه والدعاية لعبقريته ما لو وزعت تلك الأموال على أهل القطر جميعًا لكفتهم، ولكنها المصلحة، مصلحة هذا الـ(قارون) في دعم الباطل حتى يزيد ماله وتستقر أعماله، وهو لا يبغى سوى ذلك ولو هلك الشعب كله، وهناك أيضًا المنكِّلون بالخلق، الذين يجبرون الناس على اتباع الفرعون، ومن لم يستجب يصبُّون عليه العذاب الأليم، فلا يزالون على هذا المنوال من التعذيب والتخويف حتى يعم الصمت وتُشلّ الألسن، وهو ما يرضى الطاغية فيزداد في طغيانه، ويتمادى في غيه، ويتلبسه الاستكبار والعظمة الفارغة؛ فإذا بالخائفين الأذلاء يهتفون باسمه، ويفتدونه بآبائهم وأمهاتهم، بل بأنفسهم، وتخيل هذا المنتفخ بالكبر لما يسمع «بالروح بالدم نفديك يا….»، وهى كلمة لم تقل لنبى ولا لولى ولم نسمعها إلا في تلك الأرض التي عمها الجهل، وضربتها الأميّة وسكن في شعابها المرض والفقر.
يا صديقى! هل تعلم أن الله تعالى أورد قصة فرعون في كتابه الكريم فيما يزيد على خمسة وعشرين سورة من سوره الشريفة؛ ورد ذلك على الترتيب فى: (البقرة، آل عمران الأعراف، الأنفال، يونس، هود، إبراهيم، الإسراء، طه، المؤمنون، الشعراء، النمل، القصص، ص، غافر، الزخرف، الدخان، ق، الذاريات، القمر، التحريم، الحاقة، المزمل، النازعات، البروج، الفجر)؛ كرر الحق ذلك المشهد وألح عليه ليحذر المؤمنين من تلك الظاهرة، ظاهرة الطغيان، وأنها لا تحدث إلا بإرادتهم، فحينها يستخف بهم الفرعون، ويراهم لا يستحقون الكرامة التي فطر الله الناس عليها؛ فيدوس عليهم بقدميه، ثم لا يجد من يرد عليه أو يعصى له أمرًا؛ حتى العلماء الذين تشوّفوا إلى الدنيا وزخارفها، فيلقى إليهم بلعاعة فيتحولون إلى النقيض؛ فيحللون له الحرام، ويحرمون الحلال، ويفتون بوحدانيته وعظمته وقدسيته، والناس تبعٌ لهم، قد أبوا إلا أن يخلدوا في المذلة؛ فمثلهم كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث.
لتعلم يا صديقى أن الناس الذين تستغرب من عدم انفعالهم ضد الباطل، هم من صنغوه فكيف يثورون ضده؛ فإذا ثابوا إلى رشدهم فسوف يزلزلون الأرض من تحت قدميه، وهذا ما نأمله مع الوقت، ومن التاريخ العبرة؛ إذ يُحكى أنه لما أراد حكام فرنسا المدنيون الانسحاب من الجزائر بعد عقود من احتلالها، اعترض جنرالات الجيش وهددوا باحتلال باريس، لماذا فعلوا ذلك؟ بالتأكيد ليستمروا في الاستفادة من هذا الوضع ولو كان في غير صالح بلدهم التي باتت تتعرض للخسارة المادية والانتقادات الدولية. يقال إن الشعب كله هو من احتل يومها شوارع باريس وغيرها من المدن، وقطع على هؤلاء الجنرالات تلك الرغبة المجنونة، وهذا هو الفرق بين الشعوب الواعية والأخرى المغيبة. لا أقول يا صديقى إن شعوبنا كلها مغيبة، بل قطاعات منها هم: حاشية الطاغوت، والمستفيدون منه، والكارهون لدين الله، والطائفيون، والشهوانيون، وتجار الحرام وغيرهم.
وإن من فضل الله على الناس أنه يضرب الباطل -فى ساعة محددة لما يزيد فساده- في مقتل، ويأتيه من حيث لا يحتسب، فامرأة فرعون تكفر به، وتستهين بقوته، وتفضح بطره وغروره (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [التحريم: 11]؛ ذلك أن الله لا يعجزه شىء، ولا ينظر إلى خيانة الخائنين، أو قعود المترفين، أو عجز المظلومين، فإنما هى ساعة حتى يأتى وعده فلا راد لما قضى (فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى) [النارعات: 25، 26].
أضف تعليقك