لا يتوقف الصهاينة عن ممارسة مهارتهم الفائقة في اصطياد المواعيد التاريخية، للإمعان في الإهانة، والتنكيل بمشاعر الشعوب العربية، فيختار وزير الطاقة الخامس عشر من يناير/ كانون ثاني ليعلن عن حضوره في جامع محمد علي بالقاهرة، في اليوم الذي يحيي فيه الناصريون ذكرى ميلاد جمال عبد الناصر.
يفعلها الوزير الصهيوني، فلا تسمع صراخًا، أو حتى همسًا من جماعة "محبي الزعيم الخالد"، ولا تقرأ عنوانًا في صحيفة ناصرية يندّد بالزيارة، أو يسجل اعتراضًا خجولًا، ولا تجد أثرًا لابن جمال عبد الناصر، الأصغر في كل شيء، والأكثر طنينًا عن عداء والده الكيان الصهيوني، والذي يردّد صباحًا ومساءً أن عبد الفتاح السيسي، الذي هو الولد المدلل للصهاينة، امتداد لوالده، وأنه يرى فيه ملامح عبد الناصر وصفاته.
في ليلة ذكرى ميلاد الزعيم كان ابنه، وابن السيسي في الوقت ذاته، يعلن في مداخلة تلفزيونية إن مشروع الثلاثين من يونيو/ حزيران 2013 هو إحياء لمشروع جمال عبد الناصر، ويشرح بأن أعضاء حركة تمرد هم أحفاد عبد الناصر.
ولو وضعت ذلك بجوار ما تضخّه الدوائر الصهيونية يوميًا من إفاداتٍ عن الدور الإسرائيلي في دعم واحتضان مشروع انقلاب السيسي في "30 يونيو"، وأيضًا اعترافات دوائر سيسية بأنه لولا الإسناد الصهيوني لما نجحت 30 يونيو (راجع تصريحات النائب عماد جاد قبل عامين) فإن المحصلة تكون أن الصهاينة هم أصحاب الفضل على مشروع عبد الناصر وولده وأحفاده. والأكثر مدعاة للأسى أن أحدًا من الناصريين ما عاد يملك القدرة على المجاهرة بالرفض، أو يدعو إلى تظاهرة أو وقفة احتجاجية، أو يصدر بيانًا مهذّبًا يسجل فيه اعتراضًا على التغلغل الصهيوني في عمق الذاكرة الوطنية والتلاعب بها، وتحويلها مادة درامية ساخرة.
وتزداد المفارقة سخريةً، حين يكون وزير الطاقة الصهيوني في مسجد محمد علي، الذي اشتهر بمذبحة القلعة ضد المماليك، بينما أحد صقور الناصرية/ السيسية الزميل عبد الحليم قنديل في السجن، وهو الذي فاق حماسُه للسيسي حماسَه التاريخي لعبد الناصر، حتى أنه ذات يوم، وفي سياق التعبير عن إيمانه العميق بالسيسي مجددًا لمشروع عبد الناصر، طالبه بمذبحة قلعة جديدة، على غرار مذبحة محمد علي، للإجهاز على بقايا المماليك الجدد، والتفرغ لبناء الوطن.
والحال كذلك، لن يكون مفاجئًا على الإطلاق أن تمتد الإهانات الصهيونية للذاكرة، لتصل إلى ضريح جمال عبد الناصر، فنصحو على خبرٍ جديدٍ على موقع السفارة الصهيونية يقول إن بنيامين نتنياهو زار قبر عبد الناصر، مُخرجًا لسانه لكل من كانوا يرفعون صور الزعيم في تظاهراتٍ داعمة للمقاومة الفلسطينية، ومندّدة بالمجازر الصهيونية، ولم لا وقد سيطروا وهيمنوا وصار لهم في القاهرة الشخص الذي يحارب من أجل إسرائيل، ونجح في مصادرة الهتاف في الحناجر، وقطع الألسنة التي كانت تنطق يومًا "بنرددها جيل ورا جيل بنعاديكي يا إسرائيل"؟.
على أن هذه المأساة الحضارية الشاملة لا تخلو من مضحكاتٍ أخرى، كأن يختزل بعضهم التناقض مع مشروع عبد الفتاح السيسي، المصنوع صهيونيًا، في خلافٍ على تعديلاتٍ دستورية، ويهبط بالمعركة معه إلى رفض التغيير في دستور "30 يونيو"، والسؤال هنا: إذا أعلن السيسي، كما رئيس موريتانيا، رفضه التغيير في الدستور، هل عندها سيكون زعيمًا وطنيًا وديمقراطيًا يستحق الشكر والثناء؟.
غير أن ذروة الملهاة تتجسّد في حيثيات رفض نجم الناصرية الأبرز، حمدين صباحي، وهو يقول إن من الواجب التصدي للعبث بالدستور، لأنه يمثل الثمرة الوحيدة الباقية من ثورة يناير.. أي عبث، وأي بؤس، وأي تلاعبٍ بالذاكرة حين يستمر الإصرار على المزاوجة بين يونيو (الصهيوني بامتياز) ويناير المصري الشعبي الأصيل؟.
هل يعني هذا موقفًا ضد أي جهد يتصدّى لتغول السيسي وتوسيع طغيانه، أو تشفيًا فيمن صنعوا الدكتاتورية ثم اكتووا بنارها؟.
بكل تأكيد: لا يمكن لعاقل أن يرفض أو يعطل أي مشروعٍ يعارض الاستبداد والدكتاتورية، أو أن يشمت أو يسكت، وهو يرى الجنرال يبطش بالذين كانوا جزءً من صناعة المأساة. لكن وفي الوقت ذاته، لا يمكن عقليًا أو منطقيًا اعتبار الدفاع عن دستور الانقلاب معركةً تنتمي لثورة يناير، لأنه ببساطة الدستور الذي وضع فوق جثة ثورة يناير.
ليس ليناير دستورٌ تقر به عين إسرائيل.
أضف تعليقك