بقلم د. محمد الصغير
عشق العبودية والحياة في كنف سيد مطاع، مرض تجذر في البيئات التي أصبح الاستبداد فيها عادة، والمطالبة بالحقوق خروج وعقوق؛ لكن الغريب أن يصل الأمر إلى حالة الإدمان إذ يرى المواطن "القن" أن محاولة تخليصه من قيود العبودية التي في يديه وعلى لسانه، وفك أغلال المذلة التي في رقبته.
هي تجريد له مما يربط بينه وبين سيده، الذي كلما تفنن في إذلاله، زاد له في الإذعان والطاعة وتقرب إليه بالفروض والنوافل!
شرك القصور
قد لا يصدق كثير من العقلاء أن وزراء وكبراء يركعون لشاب أو غلام ويقبلون يده ظهرا وبطنا، ولا يلفظون اسمه إلا مسبوقا بلفظ "سيدي" لا لشيء إلا لأنه ابن أبيه، وموعود بالحكم من بعده فهو ولي العهد الذي سيستمر في استعباد هؤلاء بحكم ما يجري في عروقه من جينات الوراثة...
ومع خشية السيد من تغير عقيدة الأتباع فيه، أو التفكير في ترك بيت الطاعة ومغادرة القطيع، عمد إلى صبغ الأمر بصبغة الدين، من خلال صنمية حديثة ألبسوها ثوب "طاعة ولي الأمر"، وتفرغ المنظرون من محاربة شرك القبور، إلى تكريس شرك القصور.
وأصبح الحاكم وثنًا، لا يُسأل عما يفعل، حتى لو خرج على التلفاز لمدة نصف ساعة يزني ويشرب الخمر حسب تعبير أحد السدنة وجوقة السلطان، الذين أعدتهم أجهزته للقيام بهذا الدور، وأصبح حمل هذا الفكر والترويج له أقرب الطرق إلى قلب الحاكم وشغل المناصب ..
وكان الأمر في البداية عبارة عن أصوات فردية تشدوا بما يطرب ولي الأمر، وتنهش وتخمش كل من يحاول فتح أعين الناس على بشريته، وأنه يأكل الطعام، ويشرب الحرام!
ومع الوقت زاد العدد وأصبحت الآراء الجامية والفتاوى المدخلية هي بوق الحاكم، وحزبه السياسي، وانتقلت العدوى من الأراضي النجدية إلى ما جاورها من الدول العربية، لكن يبقى ولي أمر السعودية هو ولي ولي الأمر!
ومن هنا جاءت العداوة مع الشهيد سيد قطب رحمه الله لأنه أعلن مبكرا ما يفشل مخططهم، ويحل عقدة نفثهم ومكرهم، من خلال مراغمة الطواغيت ومجابهة الاستبداد، ومحاربة الاستعباد، وصاح في الطغمة الحاكمة كيف استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟
إن العبودية لا تكون إلا لله، والسيادة له وحده دون سواه، والحكم لا يكون إلا بما شرعه وارتضاه..
"إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۚ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ"
وقال تعالى:"أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ۗ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ".
وحذر مبكرا من فقهاء السوء، وعلماء السلطان الذين باعوا كل شيء ابتغاء رضاه.
وبقي فئام من الطغام، يخشون رفع اللثام، حتى لا تظهر لهم حقيقة هؤلاء الحكام، لأنهم استمرأوا الخضوع والخنوع، إذ ترسخ في نفوسهم أن الأمان والاستقرار تحت أقدام المستبد وداخل أسواره، خير من ربيع الحرية في فضاء رحب فسيح يخلو من ظله (طال عمره) ..
ويفسر الأستاذ سيد رحمه الله انتكاس فطرتهم في معاداة الحرية وعشق العبودية بقوله: "والعبيد يكرهون الأحرار، ولا يتصوّرون أنفسهم خارج الأسوار، فإذا خرجوا من حظائر النخاسة، ثارت في أعماقهم الخساسة، وعادوا يتمرغون على الأعتاب، ويتضرّعون أن تُفتح لهم الأبواب."
مجافاة سيد قطب
ويأتي في مرتبة أقل في مجافاة سيد قطب ولا أقول معاداته، طائفة من الدعاة إلى الإسلام أرادوا أن يقدموه منزوع الدسم، خالي الفائدة حتى يستسيغه الغرب، ويهضمه الأمريكان، وغاب عنهم أنهم هضموا حقه وقدموه على غير حقيقته، وما كان عليهم إلا البلاغ، وهم من عناهم بقوله: "ليس في إسلامنا ما نخجل منه أو نتدسس به إلى الناس تدسسا أو ما نتلعثم في الجهر به على حقيقته ..
إن الهزيمة الروحية أمام الشرق والغرب وأمام أوضاع الجاهلية هنا وهناك هي التي تجعل بعض المسلمين يتلمس للإسلام موافقات جزئية من النظم البشرية، وأعمال الجاهلية ليساند بها شريعة الله.
الإسلام ليس متهما فلا تقدموه في هذه الصورة ثم تجتهدوا في الدفاع عنه، إن من يقدمه للناس ليس في حاجة إلى مجاراة الجاهلية في شيء من تصوراتها وتقاليدها مهما اشتد ضغطها علينا، وليس معنى هذا أن نقاطعها وننزوي عنها، إنما هي المخالطة مع التميز، والأخذ والعطاء مع الترفع، والصدع بالحق في مودة.
وجاءت بعد مرتبة المعاداة والمجافاة، مرتبة التسريح بإحسان، ويمثلها فريق داخل الحركة الإسلامية نفسها ضاق بالشيخ سيد وأفكاره التي كانت أكبر من تنظيماتهم، وأوسع من دائرة حدودهم التي اختطوها لأنفسهم، إذ كان سيد قطب كمحرك طائرة عملاقة، وضع في قلب سيارة صغيرة!
وبدا التباين واضحا مع حذف التربية على الجهاد والاستشهاد من أدبيات هذه الجماعات وطرحها من أطروحاتهم،
وهو يرى أن: "الحرب ضرورة في الإسلام لتقرير سلطان الله في الأرض، وليتحرر الناس من العبودية لغير الله، وضرورة لدفع البغي من البغاة، وتحقيق كلمة الله."
بنى سيد قطب فكره على أن من عجز عن فريضة الجهاد، لزمه واجب الاستعداد، والاستعداد يكون بالتربية الإيمانية والعلمية والنفسية والبدنية، مع السعي لامتلاك أسباب القوة بكل ما تحمله الكلمة.
وبين أن تكلفة الركون والاستسلام أثقل في الميزان من تكلفة الكفاح والنجاح "إن تكاليف الدينونة لله وحده، والخروج من العبودية للطاغوت، مهما عظمت، أقل وأهون من تكاليف العبودية للطواغيت. لأن ضريبة الذل أفدح من ضريبة الكرامة، وتكاليف الحرية أقل من تكاليف العبودية، والذين يستعدون للموت توهب لهم الحياة."
إن استمرار الحرب الضروس على سيد قطب بعد وفاته بخمسين سنة، لدليل على أنهم مازالوا يرونه الخطر الأكبر على دولة الفساد والاستبداد، ومما يحسب للربيع العربي أنه أنصف صاحب الظلال، وأعاد الحركة الإسلامية إلى ظلاله الوارفة، لتحتمي بها من لهيب الثورات المضادة،
هذا سيد قطب الذي هانت عليه حياته في سبيل أفكاره وما يؤمن به، فعاشت بين الأحياء، ومات خصومه وهم على قيد الحياة.
أضف تعليقك