إن المسلم أول ما ينتصر إنما ينتصر على نفسه التي بين جنبيه، وعلى ذاته التي بين جوانحه، فإن انتصر عليها فهو على غيرها أقدر، وإن عجز عنها فهو عما سواها أعجز، وكأن المؤمنين يتنادون عبر الأزمان بمنطق الإيمان الواحد فترى ذلك المنطق يسود بينهم في العصور والأزمان { وجاء رجل من أقصا المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين } القصص 2. فهو رجل مؤمن يحمل في قلبه معالم الحق و الرجولة و المروءة ، ولم يكن موسى عليه السلام قبل أن يخرج من مصر قد أوحى إليه بعد ، ولكنه يمثل لوناً من ألوان الحق والبعد عن الفحش السائد بين الناس، لا تناله أرجاسهم ، ولا رذائلهم ، وإذا بالرجل المؤمن يعلم بالمؤامرة التي تحاك وتدبر لقتل موسى عليه السلام ليعلمنا القرآن الكريم من خلال المواقف أن نكون إيجابيين كمؤمن موسى، ومؤمن سورة يس فكلا من الرجلين جاء من أقصى المدينة ساعياً ولم يأت متمهلاً لينصر حقاً وليذود عن مظلوم ، ليرد عنه مؤامرة توشك أن تفتك به ، لأن الحق إذ نما وترعرع في قلب الإنسان ، فإنه يقاد إلى الله عز وجل ويسير في طريق الله لا يرشده إليه أحد ، وإنما تمليه عليه فطرته السليمة ، لذا يعمد الظالمون إلى تخريب فطر الشعوب ، وإلى إرهاق تلك الروح الطيبة في نفوسهم فيعمدون إلى روح الكرامة و المروءة في نفوس الناس فيقتلوها ويزهقوها ويقيمون الحواجز و العوائق في دنيا الناس ويشغلونهم بلقمة العيش فلا يلتفت كل منهم إلا إلى خاصة نفسه وبيته ، ويترك الحياة تمر أحداثها ومشاغلها ، ولكن هذا المنطق لا يعرفه أصحاب الحق ، فما إن ينبلج النور في قلوبهم ويؤمنوا بدعوة الإسلام إلا وتحركوا كل بقدر ما يحمل من علم ويطبق من تكليف ، وما يتحمل من جهد ” بلغوا عنى ولو آية ” .
إنهم لا يرضون بالقهر بحال من الأحوال ، ولنا في أبى ذر الغفارى الأسوة ، هذا الرجل المؤمن الذي توجه بقلبه وفطرته إلى الله قبل أن يؤمن بدعوة الإسلام وأرسل أخاه إلى مكة ليستعلم له عن شأن نبي الإسلام ، وحين لم يأت بما يشفي غليله إذا به يرحل بنفسه ويذهب إلى مكة يتلمس الخير حتى ساقه قدره إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشهد شهادة الحق ، وما إن نطقت شفتاه بتلك الكلمات النيرات إلا قال : يا رسول الله و الذي بعثك بالحق لأصرخن بها بين ظهرانيهم ، إنه رجل أتى من غفار وليست مكة موطنه، ولا عشيرة له فيها، يقول و الذي بعثك بالحق لأصرخن بها بين ظهرانيهم ، لا يحملها فحسب بل يصرخ بها، إنه يريد أن يدعو إلى الله بكل قواه وهو الغريب النائي عن الديار البعيد عن الأهل، ولكنه لا يضع كل ذلك في تصوره فهو يرى استضعاف المؤمنين ونبيهم معهم ويرى ما يُحمل عليهم من عذاب، ويحاول النبي صلى الله عليه وسلم أن يثنيه عما هو مقدم عليه رحمة به وشفقة، ولكنه يأبى ويخرج حيث يجلس الناس حول الكعبة، وينادى فيهم بشهادة الحق فإذا بالجالسين يستنكرون فعل هذا الغريب الذي جاء ليعلن تلك الدعوة التي يريدون خنق أصحابها، فيأتيهم هذا الغريب معلناً الدعوة التي لا يريدونها بينهم فيجتمعون عليه ضرباً ولا يبعدهم عنه إلا العباس بعد أن استحال إلى نصب أحمر بسبب ما سال من دمه، ويأتي في اليوم التالي ويفعل مثل ما فعل في اليوم الأول ولا يخلصه من بين أيديهم إلا العباس بمنطق القوة التي لا يفهم الظالمون غيرها ، قال لهم العباس : يا قوم أتدرون من أين الرجل ؟ إنه من قبيلة غفار التي تمر عليها قوافلكم، وهم قطاع طريق، فحينئذٍ كفوا أيديهم عنه فحمل أبو ذر كلمة الحق وصرخ بها بين الناس، وما بين إسلامه وبين تلك الكلمات إلا دقائق معدودات، لم يمكث سنوات في رحاب المسجد ليتعلم وجوب الدعوة إلى الله ، وفريضة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، ليتلقى في ذلك الدروس و المحاضرات و الخطب، إنما حين شرح الله صدره لرسالة الإسلام أبى على نفسه أن يكون من الساكتين .
وكما فعل الطفيل بن عمرو الدوسى شاعر العرب اللبيب حين جاء الرجل إلى مكة وخافت قريش من إسلام هذا الرجل فهو يقول عن نفسه فما زالوا يخوفونني من محمد ودعوته ويقولون لي : أنت رجل شاعر وامرؤ لبيب ، ونخاف عليك من سحر محمد ، قال : فما زالوا يخوفونني حتى حشوت أذني بالكرسف ( القطن ) لكيلا أسمع دعوة الإسلام ولا دعوة القرآن ، فيقول : بينما أنا عند الكعبة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يحاورني إذ أبى الله إلا أن يسمعني بعض ما يقول : فتسلل القرآن إلى أذني حين شاء الله بالهداية أن تلامس بشاشتها قلبي ، قال : فقلت في نفسي : إني امرؤ ذو عقل وفطنة ، فما علىّ أن أستمع إليه ، فأخرج الكرسف من أذنيه فناقشه وحاوره واستمع إلى القرآن ، فآمن بالله عز وجل فما أن نطق بتلك الكلمات حتى قال : يا رسول الله إني راجع وإني داعيهم إلى الإسلام فأريدك أن تجعل لي آية أن تسأل الله تبارك وتعالى أن يؤيدني بآية من عنده فأيده الله تبارك وتعالى بمدد من عنده بنور في إبهامه ، فيقول : إذن يا رسول الله قد يسخروا منى فتحول هذا النور من إبهامه إلى طرف سوطه كأنه قنديل معلق يتدلى من طرف سوطه ، وما إن رجع إلى قومه فاستقبله أبوه بعد طول شوق فقال : يا أبى إليك عنى فلست منى ولست منك ، قال : لم يا بنى ، قال : يا أبت إنى آمنت بمحمد صلى الله عليه وسلم ، قال : ديني هو دينك فدخل أبوه في الإسلام ، وجاءت زوجه فقال : إليك عنى فرق بيني وبينك الإسلام قالت : ديني دينك فآمنت بالله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وتحمل الرجل مشاق الدعوة وحمل أمانة الرسالة فأي فترة قضاها في مكة مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، إنها فترة يسيرة ولكنه عاد ليحمل الرسالة ومشعل الإيمان لينير به لقومه الطريق ، فإذا بهم يستأثرون عليه ويحول الزنا بينهم وبين الإسلام ، ويذهب الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد هجرته إلى المدينة ويقول : يا رسول الله قد غلب الزنا على دوس فادع الله فيرفع النبي صلى الله عليه وسلم يداه فيقول الناس هلك دوس فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم : اللهم اهد دوساً وأت بهم مسلمين ، فيرجع الرجل إليهم ويمكث فيهم ويرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأكثر من سبعين أو ثمانين بيت من دوس قد أسلموا لله رب العالمين فيحمل الرجل نور الهداية إلى قومه على الرغم من أنه لم يمكث كثيراً بين النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ولكن تحرك في قلبه روح الإيمان وحبه لدعوته فجند كل إماكناته وكل طاقاته من أجل دعوة الإسلام فكان بذلك إيجابياً متحركاً لا يحتاج إلى أمر من أحد ولا يحتاج إلى تكليف من أحد وإنما ينطلق بما أملاه عليه إسلامه .
ولقد سجل التاريخ أن الرجل الذي حيل بينه وبين الجهاد بكى ، ما أدراك ما الجهاد ؟ إنه قطع رقبة ، أو فقدان حياة بين الناس إنه يثكل أمه ويرمل زوجه وييتم ولده أو يخلف مالاً ، ويورث متاعاً فهذا هو الجهاد في دنيا الناس !! مع ذلك كان يبكى الرجل لأنه حيل بينه وبين أن تقطع رقبته في سبيل الله وحيل بينه وبين أن يذهب ليرفع راية الله عز وجل بين الناس بل كان أحدهم لشدة فقره يذهب ويتحرك فيعمل في بساتين المدينة ليأخذ أجره آخر النهار ليساهم بها في تجهيز جيش العسرة ولأول مرة في التاريخ يعرف أن أناساً يعملون ليتصدقون ، وأناساً يعملون من أجل أن يقدموا المال لدعوتهم ودينهم ، فقد تعرف دنيا رجلاً يعمل ليكفي ذاته لينفق على أسرته ليحسن من أوضاع معيشته ، أما هذا الجيل الفريد فقد ذهب ليعمل لا من اجل احتياجه الشخصي ، وإنما لاحتياج جماعي لتجهيز الجيش ، للتصدق في سبيل الله ليكون له مهمة وتكون له مساهمة في النفقة وكل منهم يقدم ما لديه في سبيل الله عز وجل دونما توجيه دونما أمر ، حتى المرأة المسلمة ذهبت وأقامت خيمتها في المسجد ” رفيدة ” رضوان الله عليه لتمرض جرحى المسلمين وتضع كل طاقتها في هذا المجال وفي هذا العمل دونما توجيه أو تكليف من نبيهم صلى الله عليه وسلم بل يستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم من نومه فيجد أبا أيوب واقفاً على الباب ومعه سلاحه فيقول : ما نابك ؟ فيقول : يا رسول الله قد سمعت صوتاً فخفت عليك .
فينتدب الرجل للدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم دونما تكليف ، وحينما يغير بعض الأعداء على إبل الصدقة في المدينة المنورة ولم يكن أمامهم إلا سلمة بن الأكوع وقد رآهم أمامه فندى سلمة وأصحابه وانطلق وحده يطارد المعتدين وكان سلمة بن الأكوع رضوان الله عليه رجل يسابق الفرس ويسبقه فجرى خلفهم وأخذ يطاردهم بعد أن أطلق صيحته وأصحابه فأدرك المسلمون أن هناك عدواً على المدينة فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يبادر لكي يسد الثغرة .
فالمسلم إن كان وحده مطالب بأن يزود عن دولة الإسلام ، يقول بن مسعود : الجماعة أن تكون على الحق ولو كنت وحدك ، وإن خذلك الناس ن وإن تخلى عنك الناس فأنت الجماعة ، أنت – إذاً – مطالب بأداء دورك ، مطالب بالجهاد حين الهيعة لا تتباطأ ولا تتراجع .
ورضوان الله على الإمام البنا القائل مبيناً أن الأمة تحتاج إلى نهضة رجل ، فيقول : إن رجلاً باستطاعته أن يبنى أمة لو صحت رجولته ، وإن كل الدعوات الإصلاحية و التجديدية إنما قام بها أناس ، وقام بها أفراد في لحظة غفي فيها المسلمون ، فوقف هذا الرجل الذي أراد الله أن يجدد على يديه الدين فاستنهض عزائم الناس ، واستحث هممهم ، ورفع للخير راية فتجمع المسلمون من حوله فكانت نهضة بعد غفلة ، وكانت صحوة بعد منام … إنه العمل الدءوب الذي لا يعرف الكلل ولا الملل { أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون } المؤمنون 61 ، ولا تتحقق الخيرات على الأرض إلا بتضحيات الرجال أصحاب الهمة العالية .
أضف تعليقك