بقلم.. وائل قنديل
نحن الآن بصدد دولةٍ لعوب في مصر، تلك الدولة التي تعيش متحلّلةً من أي قيدٍ أخلاقي أو قانوني تجاه مواطنيها، وتجاه الوطن الذي تتحكّم فيه.
انظر إلى خريطة مصر من سيناء حتى الوراق ونزلة السمان، ستجد دولةً تناصب الوطن والمواطن العداء، وتسلك، من دون أي التزام، تجاه مجموعة البشر الذين يشكلون هذا الوطن.
جغرافيًا وسياسيًا، يمكنك أن تحسبها بالمسطرة، وتسأل نفسك عن مساحة مصر قبل نشوء هذه الدولة اللعوب، وبعده، ستجد تبديلًا في الحدود والمساحات، وتبديدًا للأرض، كما جرى في سيناء.
اجتماعيًا، تتحكّم الدولة في موارد الوطن، معلنةً بكل وضوح استقالتها من أي دورٍ رعوي أو خدمي لمجموعة المواطنين الذين يصنعون وجود هذا الوطن، إذ تنطلق، بكل طيشٍ وشراسة، في طريقها إلى إلغاء الدعم الذي تكفله الدساتير والقيم، لكي يستطيع البشر البقاء على قيد الحياة.
قبل التفصيل، لا بد من الإشارة إلى أن الدولة، بالتعريف الصحيح، ليست هي الوطن، كما أن السلطة ليست هي الدولة. بالتأكيد، الوطن هو المعنى الوجداني والقيمة الحضارية. وعلى ذلك فهو وحده يتمتع بتلك الحالة من القداسة والجلالة. أما الدولة فهي مجموعة المؤسسات التي تجسد الشكل الإجرائي والإداري للوطن، وهي التي يمكن أن تحافظ على جلال الوطن، أو تهدره وتتاجر به في أسواق النخاسة السياسية.
فيما لا تزيد السلطة، أو الحكومات، عن كونها الأدوات التي اختارها العارفون بالوطن لتنظيم حياتهم، في النظم الديمقراطية، أو الأدوات التي تفترس الوطن، وتلتهم المواطن لحسابها الخاص، في النظم القمعية.
انظر إلى الوضع الحالي، ستجد سلطةً مسعورةً مشغولةً بتكديس الأموال في خزائنها بكل الطرق، استدانة من الخارج، ومصادرة للممتلكات العامة والخاصة في الداخل، ثم التحرّر من الواجب القانوني والأخلاقي تجاه المواطن، إذ كلما اقترضت هذه السلطة، واستدانت أكثر، انسحبت من أدوارها المنوطة بها تجاه أبناء الوطن أكثر وأكثر، من خلال إلغاء الدعم، وجباية الأموال، بالبطش والإكراه، من المواطنين لصالح صناديق أنشئت خصيصًا لتسمين السلطة، بدءا من صندوق "تحيا مصر" وصولًا إلى غابةٍ من الصناديق، تمتلئ بنشل ما في جيوب تلاميذ المدارس والجامعات.
بالتعبير العلمي، تدير هذه السلطة اقتصادًا بلا أعباء، وبلا مسؤولياتٍ مجتمعية، لا هو اشتراكي، ولا هو رأسمالي، فتقترض لنفسها، وتصادر الممتلكات لحسابها، فيتضخم الدين، خارجيًا وداخليًا، لمستويات مرعبة، مطلوب من أجيال قادمة سدادها.
مرة أخرى، أستدعي من تراث فيلسوف علم السياسة الإسلامية، أبو نصر الفارابي، قائمة بأسماء وأنواع المدن (الدول) الفاسدة: فهناك المدينة الجاهلة التي هي مدينة الظنون والأوهام والمعتقدات الفاسدة، والمدينة المتبدلة التي تبدل قيمها وأخلاقياتها، والمدينة الفاسقة، والمدينة الضالة، ومدينة النذالة، ومدينة الخسّة والاجتماع الخسيس.
كل هذه التعريفات تجدها متحققةً في دولة عبد الفتاح السيسي الآن، ويمكنك أن تضيف إليها تعريف المدينة (الدولة) اللعوب، وتجدها مجسّدة فيما يجري في العاصمة الإدارية، وفي الورّاق وفي نزلة السمان، وفي كل مكانٍ تمتد إليه يد السلطة بالتهجير والاقتلاع والمصادرة، لكي تنتعش خزائن أصحاب هذه الدولة.
قبل ثورة يناير، كانت شرم الشيخ عاصمةً لدولة لعوب، قرّرت أن تهين تاريخها وقيمها الوطنية. وكما دونت في ذلك الوقت "ولمن يسألون عن مصر فهى موجودة، لكنها هربت من بيتها وتاريخها واستقرّت هناك فى شرم الشيخ، تركت البيت، واستقرت فى الشاليه، هجرت السياسة واختارت السياحة. باختصار: مصر ضجّت من دورها وحجمها ووزنها، وقرّرت أن تعيش لنفسها فقط، تعيش اللحظة وحسب، غير مهتمةٍ بالنظر إلى الوراء، فتخجل من تاريخها وإرثها، وغير راغبةٍ فى النظر إلى الأمام، فتنشغل عن الاستمتاع باللحظة".
وحدها، ثورة يناير، حرّرت مصر من الأسر في شرم الشيخ، وأعادتها إلى ذاتها وتاريخها وقيمها، ثم انقضّ عليها الأوغاد مرة أخرى، واختطفوها من نفسها، ومن أبنائها إلى العاصمة الإدارية، لتنتكس مجدّدًا إلى حالتها "اللعوب" في انتظار ثورةٍ، ستأتي حتمًا، تعيدها إلى ذاتها واتزانها وقيمها المهدورة، من تيران وصنافير إلى سيناء، وحتى الوراق ونزلة السّمان
أضف تعليقك