بقلم..سليم عزوز
كان لا بد من أن تمر مصر بالانقلاب العسكري ليستوي لنا الصف!
فإذا كانت الثورة قد مكنت العسكر من الحكم المباشر، سواء بواسطة انتداب المجلس العسكري للمهمة، أو بانقلاب تموز/ يوليو 2013، فإن ما جرى، ويجري، كفيل بإنهاء هذه الحقبة المظلمة من تاريخ مصر نهائيا، وهو الأمر الذي لم يكن مضموناً في حال استمرار الحكم المدني، والذي كان فيه العسكر يودون أن يقوموا بدور الوصاية على العرش بدون مبرر، فلم يكونوا في الحكم، ليصبح من حقهم العودة اليه، ولم يكونوا شركاء في ثورة يناير، ليصبح من حقهم ركوب الثورة وحكم البلاد!
في مقال يوم الاثنين، ذكرت من الأدلة ما ينسف الدعاية الرائجة بأن مصر كانت تحكم بالعسكر قبل الثورة، وأن العسكر شاركوا في الثورة، أو لم يقوموا بإحباطها لوقف عملية التوريث، ليستمر الحكم لهم. ولست اليوم بحاجة لتكرار ما كتبت، لكن ما يهمني اليوم هو التأكيد على أنه ليس صحيحاً البتة أن العسكر حموا الثورة، فالحقيقة أنهم جاؤوا في ليلة جمعة الغضب، لتقديم المؤن والذخيرة لقوات الشرطة الهاربة بعد ضغط الثوار في هذا اليوم التاريخي. وقد كنت شاهداً على هذا الحضور لقوات الجيش من أول لحظة، وشاهدت المعاملة من قبل الثوار، والتي كانت سبباً في عدول الجيش عن استكمال دور الشرطة. فبعد الاحتفال الهستيري بحضور المدرعات، وإمطار الضباط بوابل من القبلات والأحضان، كان التصدي لهذه المدرعات عندما عُرفت طبيعة المهمة. وهنا كان التراجع، ليس تحينا للثورة، ولكن في انتظار فرصة أخرى، تمثلت في السماح باجتياح الميدان في يوم معركة الجمل، وحضر عبد الفتاح السيسي بنفسه، ليطلب إخلاء الميدان لصالح أنصار مبارك، ولم يتم تمكينه من ذلك، وتم دحر العدوان!
حتى لا يتغول الإسلاميون
لم يكن لدى الثوار رغبة في الاصطدام بالجيش، لأسباب كثيرة، والبعض اعتبره أداة حماية، حتى لا يتغول الإسلاميون أصحاب الشعبية على الأرض عليهم، فاتخذوه حكما، وفي المقابل لم تكن لدى الإسلاميين الرغبة في الدخول في معركة مع الجيش، ومن ثم ساهم الجميع في ترويج دعاية: "الجيش الذي حمى الثورة.. والجيش الذي أمر مبارك بالتنحي.. والذي رفض تنفيذ أمره بإطلاق الرصاص الحي على الثوار".
لم تكن لدى الإسلاميين الرغبة في الدخول في معركة مع الجيش، ومن ثم ساهم الجميع في ترويج دعاية: "الجيش الذي حمى الثورة"
ومشى المجلس العسكري بين فصائل الثورة بالنميمة يحاول الوقيعة بينهم، ونجح في هذا بدرجة كبيرة، وقد احتفى بالائتلافات الثورية، ولا نعرف من فوض أصحابها لتمثيل ثورة أنتجت مطالب ولم تفرز زعامات، بل وفرض هؤلاء الشباب على وسائل الإعلام، لصنع نجوميتهم، والتمكن من خلالهم في أن يستمر على رأس السلطة، من خلال النص على وضع في الدستور يجعل منه "الولي الفقيه"، لكن الإخوان فوتوا عليه هذه الفرصة، بإصرارهم على أن إعداد الدستور يكون بعد الانتخابات الرئاسية، ولم يمكنهم من وضع هذا النص الذي ظهر مبكرا، على ألسنة من تم تقديمهم ليمثلوا الثورة: أن يكون الجيش هو الحارس على قيم الدولة المدنية!
ومن خلال الائتلافات الثورية، تمكن المجلس العسكري من أمرين: الأول، إسقاط حكومة أحمد شفيق (وهو لم يكن على وئام أبداً مع المشير طنطاوي)، والثاني هو إسباغ الشرعية الثورة، على أتعس حكومة عرفتها مصر طوال تاريخها، وهي حكومة "عصام شرف"، عضو لجنة السياسات لصاحبها جمال مبارك لآخر يوم، بيد أن الثوار البواسل قالوا إنه رئيس الحكومة القادم من ميدان التحرير!
مشى المجلس العسكري بين فصائل الثورة بالنميمة يحاول الوقيعة بينهم، ونجح في هذا بدرجة كبيرة، وقد احتفى بالائتلافات الثورية
بيد أن شيئاً لم يكن متوقعاً حصل، وهو عندما تم الاعتداء الأمني على مصابي الثورة، وأسر الشهداء، وتبين أن أحداً لم يلتفت إليهم، مع هذه الائتلافات التي كانت في اجتماعات متصلة برئيس الحكومة (القادم من التحرير) والمجلس العسكري الذي حمى الثورة!
مظاهرات البالون
كانت مظاهرات القوم أمام مسرح البالون بالعجوزة، وبعد الاعتداء الهمجي عليهم، انتقلوا إلى التحرير في ليلة شهدت مليونية، بمجرد العلم بما جرى لهم، وفي وقت كان فيه شباب الثورة (أصحاب ائتلافات الوجاهة الاجتماعية) في مجلس الوزراء. وقد اختزل "عصام شرف" الثورة في مجرد حجرة لهم في مبنى المجلس يجتمعون فيها ويمنحون صكوك الثورة لمن يريدون!
وكانت هذه الليلة حاسمة، فالمليونية التحقت بها ائتلافات الثورة، كما التحق بها الإخوان، وبدون دعوة منهم. وهنا وقع الخلاف بين الثوار والمجلس العسكري، وارتفعت الأصوات لتقول له: ارحل، وترتفع الهتافات بسقوط حكم العسكر!
وأود هنا التذكير بأن المجلس العسكري لم يترك الحكم طواعية، ولكن بقوة الدفع الثوري. ومع اتساع دائرة الرفض له، قال المشير طنطاوي إنه قد يلجأ للاستفتاء الشعبي للبقاء في السلطة، وكان ردي: نحن لم نأت بك باستفتاء لتبقى باستفتاء.
هناك من عوق طي صفحة حكم الجيش، وتمثل هذا في الشقاق الذي جرى بين مكونات الثورة، وكل فريق احتمى بالجيش، فكانت الدعاية أن عبد الفتاح السيسي وزير دفاع بنكهة الثورة
وهنا علم كل أناس مشربهم، فالمجلس العسكري ليس جزءاً من الثورة، فقد تشكل بالاختيار الحر المباشر لشخص حسني مبارك، وغادر المجلس العسكري، وأجبر على إجراء الانتخابات الرئاسية. لكن هناك من عوق طي صفحة حكم الجيش، وتمثل هذا في الشقاق الذي جرى بين مكونات الثورة، وكل فريق احتمى بالجيش، فكانت الدعاية أن عبد الفتاح السيسي وزير دفاع بنكهة الثورة، تقابلها دعاية القوى السياسية الأخرى، وهي أن الجيش حمى الثورة، ومن هنا كانت دعوة الجيش لاستكمال مهمته في حماية الثورة والانتصار لرسالته بعزل الرئيس المدني المنتخب!
وجاء الانقلاب، ويبدو أنه كان ضروريا أن يحدث، وإن كانت فاتورته باهظة على كافة المسارات، لكننا كنا في حالة أقرب إلى ضرورة الاستعانة بآخر العلاج وهو الكي!
إن بعد الجيش عن السلطة على مدى أربعين عاماً، مع صالح جهاز المخابرات، كان سبباً في هذه القدسية في نفوس المصريين، فلم يشبتك مع الناس، ولم يكن طرفاً في التعامل السياسي معهم، على العكس من الشرطة. وعلى مدى ثلاثين سنة من عملي الصحفي، لم التق بضابط مخابرات، ولم أتلق اتصالاً من هذا الجهاز، بالاعتراض على أمر ما، أو بالموافقة على موقف ما، وفي أي إجراء يتم اشتراط موافقة المخابرات العامة عليه، فإن الموافقة هي تحصيل حاصل، والجهاز الوحيد الذي يعترض هو مباحث أمن الدولة، سواء لاعتماد مندوب لصحيفة في جهة سيادية، أو إصدار صحيفة، وما الى ذلك!
ولعل المرة الوحيدة التي جاء فيه قرار جهاز المخابرات بالاعتراض كان للترخيص لجريدة الكرامة، لصاحبها حمدين صباحي، وهو إجراء لم ينص عليه القانون، ولهذا تم إلغاؤه بحكم قضائي من مجلس الدولة!
وفي الحياة بشكل عام، لم يحدث أن شوهد ضابط جيش يتشاجر مع أحد، أو يستقوي ببدلته العسكرية، أو أن يصيح الصيحة الشهيرة: "أنت مش عارف أنا مين"!
ومن حيث كونه ليس جزءاً من ممارسة السلطة، فقد تشكلت حالة القداسة، والتي بدأت بانتصار أكتوبر سنة 1973، فليس سراً أن الجيش تعرض لسخرية المصريين بعد الهزيمة، إلى حد أن يطلب الرئيس جمال عبد الناصر من الشعب المصري التوقف عن إطلاق النكات على الجيش!
كان من الألغام التي واجهت الثورة بجانب هذه السمعة الطيبة، هو الخلط بين المجلس العسكري (وهم معينون بقرار من مبارك) والجيش. وحرص المجلس على هذا الخلط،
اللغم
وقد كان من الألغام التي واجهت الثورة بجانب هذه السمعة الطيبة، هو الخلط بين المجلس العسكري (وهم معينون بقرار من مبارك) والجيش. وحرص المجلس على هذا الخلط، ثم كان الحكم العسكري، حيث التعامل المباشر مع الحياة المدنية، وحيث الفشل الذي يشعر به كل مواطن (على يد من يحكم باسم الجيش)، وحيث التفريط في التراب الوطني!
فسمعة الجيوش دائماً في أن تحمي ولا تبدد، ولم يشأ السيسي أن يفصل بين عمله كحاكم يؤخذ منه ويرد، وبين الجيش، فبدا حريصاً على أن يأخذ الجميع معه في سكة التفريط عندما قال إنه سأل المخابرات والجيش؛ فقالوا له إن تيران وصنافير سعودية.
واكتمل المشهد بهذا الحضور العسكري في الحياة المدنية بكثافة، وفي هذا التميز الواضح لصالح مثلث الحكم (الجيش والشرطة والقضاء)، وبهذا الاستحواذ على المشروعات العامة، مما كان سبباً في زيادة نسبة البطالة واتساع رقعة الفقر!
ثم إن الحاكم العسكري، ليس هو "الدكر"، وهو الوصف الذي كان يتم ترديده، وباعتبار أن "الدكر" لا يكون سوى ضابط بالجيش، وتربى في بيت الوطنية المصرية!
هل تذكرون حملة تقبيل البيادات، ووضعها فوق الرؤوس؟ وارتباط الوطنية بالموافقة على حكم العسكر، في دعايات سابقة، يعد ترديدها الآن من باب النكتة التي تنتمي إلى الفكاهة؟!
عندما يسقط حكم العسكر هذه المرة، فلن تجد أحداً يترحم عليه، فالسيسي من فضل الله وكرمه هو النسخة الأكثر رداءة من هذا الحكم العضوض!
علم الله أن فيكم ضعفا.
أضف تعليقك