• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانيتين

بقلم قطب العربي

قبل نحو عشرين عاما، نشرت صحيفة الشعب المصرية المعارضة مقالا للمفكر الإسلامي محمد عباس بعنوان "قل هو الرئيس أحد.. الرئيس الصمد"، ورغم قسوة العنوان بالنسبة للبعض، إلا أنه كان تعبيرا عن الحالة التي وصل إليها نظام حكم حسني مبارك، حيث كانت كل الأمور تدور حول شخص الرئيس، فلا قيمة لوزراة ولا لبرلمان ولا لصحافة، ولا لأي شيء سوى الرئيس، وكان كل قرار يصدر هو بتعليمات أو توجيهات السيد الرئيس، وكل إنجاز يتحقق حتى لو في قرية نائية هو بفضل متابعة وتوجيهات السيد الرئيس.. إلخ.

لم يكن مبارك استثناء ممن سبقه سواء السادات أو عبد الناصر، فهذه هي شيمة الحكم العسكري الإستبدادي؛ يتعامل مع الدولة كمعسكر، ويتعامل مع الشعب كجنود، وفي المعسكر هناك قائد واحدـ وليس هناك برلمان أو حوار أو صحافة.. الخ. لم يقطع هذا التقليد سوى ثورة يناير التي أتت بأول رئيس مدني منتخب، وبأول برلمان حقيقي وبدستور يقسم السلطات بين الرئيس والحكومة والبرلمان، ويعطي الصحافة حرية غير مسبوقة، ويمنح الشعب حقوقه في التعبير عن رأيه دون الحصول على إذن مسبق. وباختصار، تحولت مصر خلال فترة وجيزة إلى مشروع دولة مدنية حقيقية الحكم فيها للمدنيين، أما العسكريون فدورهم هو حماية الحدود والثغور والأمن القومي للبلاد، وضمن هذه المنظومة الجديدة اضطر العسكريون لآداء التحية للرئيس المدني وكم كانت ثقيلة على أنفسهم.

حين وصل السيسي إلى قصر الاتحادية عقب انقلاب الثالث من تموز/ يوليو 2013، لم ترق له صيغة الحكم بالطريقة التي نظمها الدستور (الصادر بعد الانقلاب)، وأطلق رصاصته الأولى على الدستور حين وصفه بأنه كتب بحسن نية، وأن الدول لا تبنى بحسن النوايا. ورغم أن السيسي تراجع عن تعديل الدستور في العام 2015 (ربما بسبب تحذيرات خارجية)، إلا أنه راح يضع قواعد حكمه بعيدا عن الدستور، ويفرضها كأمر واقع، ولم يعد الدستور سوى ورقة توت يستتر بها أمام العالم الخارجي عند الضرورة.

السيسي أقسم على احترامه، وكذا فعل وزراؤه ونواب برلمانه، ومحافظوه إلخ، وها هو يحنث علنا بهذا القسم، منقلبا مجددا على دستوره الذي صنعه رجاله، ليمثل ذلك الانقلاب الثالث له بعد انقلابه على الحكم المدني ودستوره ثم انقلابه على خارطة الطريق التي وضعها بنفسه

لقد تم تجميد العمل بالدستور منذ ولادته، فلم يتم تنفيذ أي شيء من بنوده، سوى أن السيسي أقسم على احترامه، وكذا فعل وزراؤه ونواب برلمانه، ومحافظوه إلخ، وها هو يحنث علنا بهذا القسم، منقلبا مجددا على دستوره الذي صنعه رجاله، ليمثل ذلك الانقلاب الثالث له بعد انقلابه على الحكم المدني ودستوره ثم انقلابه على خارطة الطريق التي وضعها بنفسه في تموز/ يوليو 2013.

يشكو عرابو التعديلات أن الدستور يهمش صلاحيات الرئيس لصالح الحكومة، وأنه يمنح سلطات للبرلمان تعيق عمل الرئيس، وأنه لا يمنح الرئيس الوقت الكاف لتنفيذ وإكمال مشاريعه. والحقيقة أن تلك الأمور هي من درر التاج لدستور الثورة التي انتقلت إلى دستور 2014، والحقيقة أيضا أن السيسي لا يعبأ بحكومة أو برلمان، بل إن البرلمان نفسه الذي منحه الدستور صلاحيات قوية كممثل للشعب يتطوع من نفسه للتنازل عن هذه الصلاحيات؛ لأن نوابه يدركون الطريقة التي وصلوا بها إليه، وهي بالتأكيد ليست الإرادة الشعبية الحرة.

حين شرع السيسي في تغيير الدستور هذه المرة بما يناسب مقاسه الذي يرسمه لنفسه حاكما أحدا فردا صمدا، دارت العجلة سريعا فتم الدفع بعدد من نواب البرلمان (الذي صنعته المخابرات على عينها) للتقدم بطلب التعديل صباح الأحد 3 شباط/ فبراير، وليحيل رئيس البرلمان الطلب فورا إلى اللجنة العامة للمناقشة، فهم يريدون خطفه سريعا قبل أن تظهر أية ضغوط داخلية أو خارجية. والحقيقة أننا نستطيع أن نقول إن مجرد تقديم الطلب الرسمي للبرلمان يعني أن التغييرات تمت ولا مجال لوقف مسيرتها.

كانت الفرصة سانحة أمام المعارضة في الداخل والخارج للتحرك قبل تقديم الطلب للبرلمان.. كان بإمكانها تنظيم حملات، وعقد مؤتمرات صحفية، والتواصل مع مؤسسات المجتمع المدني العالمية لشرح خطورة الأمر، لكن شيئا من ذلك لم يحدث.

لدينا جمعية مشهورة باسم حماية الدستور يرأسها عمرو موسى، رئيس لجنة الخمسين التي صاغت الدستور، ولم تصدر بيانا، وحين تحدث رئيسها عمرو موسى في برنامج تلفزيوني استخدم لغته الحلزونية التي لا تفهم منها موقفا واضحا.. لدينا أعضاء لجنة الخمسين أنفسهم الذين كتبوا الدستور ووصفوه بـ"أعظم دستور في الكون"، ثم يبتلعون ألسنتهم حاليا..

لدينا شخصية دولية بحجم الدكتور محمد البرادعي؛ يكتفي ببعض التغريدات، ولم يكلف نفسه مؤونة التواصل مع رموز سياسية أخرى لقيادة تحرك مناهض لهذه التعديلات.. لدينا حركة باسم الحركة المدنية تضم العديد من الأحزاب ظلت تؤجل إصدار بيان حول التعديلات حتى الآن.. لدينا رموز سياسية ليبرالية تقيم في الخارج وكانت داعمة للدستور بشدة، وهي الآن بمنأى عن ملاحقات السيسي، مثل عمرو حمزاوي، وبهي الدين حسن، وعصام حجي، وآية حجازي، ووائل غنيم، وبلال فضل.. لم يأخذوا خطوة عملية ضد التعديلات، وكل ذلك شجع السيسي ومن يقفون خلفه دوليا على المضي قدما في التعديلات؛ التي لن تقتصر على تمديد فترات الحكم وتوسيع صلاحيات الرئاسة، لكنها ستطال جميع المواد التي جسدت الدولة المدنية بعد ثورة 25 يناير، بل قد تمحو اسم 25 يناير من الدستور.

بالنسبة لرافضي الانقلاب منذ البداية وكل ما نتج عنه، فإن معركتهم مع النظام قائمة لم تتوقف، حتى وإن كانت تمر بحالة ضعف، وهم واعون تماما بأن السيسي الذي انقلب على دستور 2012 الذي أقسم على احترامه، ليس مستغربا منه أن ينقلب على دستور وضع في عهده؛ لأنه لا يؤمن أصلا بالدساتير كأسلافه من الحكام العسكريين، وقد قالها الرئيس الراحل أنور السدات يوما: "إحنا اللي بنعمل الدساتير".

معركة مواجهة العبث الدستوري هي فرصة جديدة لتعاون مشترك بين جميع القوى الوطنية، يؤدي فيها كل حسب رؤيته وحسب قدراته، وسيكون النجاح فيها إنقاذا للوطن بطريقة سلمية أمنة.. فهل نستطيع؟؟

أضف تعليقك