بقلم.. سليم عزوز
حدث ما توقعته، ودارت عجلة التعديلات الدستورية. وقد كتبت قبل أكثر من عام، أن النية تتجه، لإقرار التعديلات في النصف الأول من هذا العام وقبل الوصول لشهر حزيران/ يونيو، حيث تبدأ الإجازة البرلمانية، ومعنى الانتظار لدور الانعقاد الجديد في تشرين الأول/ أكتوبر، أننا سندخل في عام جديد. فالبدء في الإجراءات في هذا التوقيت يعني أن الانتخابات ستجرى في سنة 2020، حيث الانتخابات البرلمانية، وليس معقولاً أن يُجرى استفتاء على الدستور وانتخابات برلمانية في عام واحد، كما أن العام القادم هو عام الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وربما لا يستطيع ترامب أن يعطي موافقته على تمرير الجريمة بما يمثل دعاية سيئة له باعتباره راعي الاستبداد في المنطقة، وهو ما يمكن أن يُستخدم في النيل من شعبيته!
ولم يكن ما توقعته رجماً بالغيب، فقد كان من خلال قراءة للواقع، ولما يكتبه من هم مقربون من دوائر الحكم، وقد سبقتها في فكرة العودة للغرفة البرلمانية الثانية، وحددت الاسم (مجلس الشيوخ)، وكان هذا من خلال مصادري في القاهرة، وهو ما ذكرته بعد ذلك تقارير صحفية، وسبقت به ما جاء في مقال "ياسر رزق"، الصحفي المقرب من عبد الفتاح السيسي، والذي عرض الاتجاه على أساس أنه طلب منه شخصياً، فهو يطلب بعودة مجلس الشورى، تحت اسم مجلس "الشيوخ"، دون أن يذكر سبباً لذلك!
العودة إلى زمن مبارك:
وعندما كتبت مؤخراً عن العودة إلى نظام "الغرفة الثانية"، قلت إن هذا بهدف توسيع دائرة المستفيدين من الحكم، وحتى يكون سبباً كافياً لتحريض وجهاء المناطق، على حشد الناس للتصويت، وبذل الجهد في هذا السياق، وذلك لإثبات الولاء استعداداً للانتخابات البرلمانية القادمة، فإن لم تتسع لهم "الغرفة الأولى"، فقد يتم ترشيحهم لـ"الغرفة الثانية"، في برلمان لم يعد سراً أنه صنيعة الأجهزة الأمنية، ويشرف على عملية الاختيار نجل السيسي (ضابط المخابرات العامة) بنفسه، وله في العودة إلى "الغرفة الثانية" مآرب أخرى!
فالسيسي يريد العودة إلى زمن مبارك، بكامل الصلاحيات الممنوحة له، وبنفس شكل الدولة، وهو يريد التخلص من فكرة الهيئات الاعلامية المستقلة (الثلاث)، حتى وإن كان استقلالها شكلياً، وتمكن بالقانون من تشكيلها وفق هواه، فهو يريد العودة إلى الوضع القديم، حيث تشرف الغرفة التشريعية الثانية على المؤسسات الصحفية القومية، شكلاً؛ لأن قرارات التعيين والعزل كانت تأتي من الرئاسة، لتوافق عليها اللجنة العامة لمجلس الشورى، ولتعرضها في اجتماع عام للمجلس لتمريرها، ثم تنقطع صلة المجلس بالصحافة القومية التي تدار من خلال رؤسائها، وبتواصل مباشر مع رئاسة الجمهورية، لدرجة أن الرجل الثاني في الدولة، وهو رئيس مجلس الشعب فتحي سرور، قال مرة في وصف العلاقة بينه وبين رئيس إحدى هذه المؤسسات: الأستاذ إبراهيم نافع كعبه عال علينا!
المرة الوحيدة، الذي شهد مجلس الشورى في عهد مبارك اعتراضاً على أحد، كان من أحد النواب الذين ينتمون لأحزاب المعارضة، وعلى شخص "سمير رجب"، لكنه اعتراض لا قيمة له، ولم ينتج أثراً عند التصويت الروتيني.
ولأن اللجنة العامة كانت تضم في تشكيلها أعضاءً من النواب الذين يمثلون أحزاب المعارضة (وكانوا دائماً من المعينين بقرار رئاسي)، فقد ذكر لي أحد رؤساء أحزاب المعارضة، أنه في أول اجتماع للجنة لمناقشة عملية التمديد لرؤساء تحرير الصحف القومية، طلب عرض الأسماء للمناقشة، لكن رئيس مجلس الشورى صفوت الشريف، أخبره بأنهم هنا لا يناقشون اختيارات الرئيس، فدورهم هو تمريرها وليس مناقشتها.
غرام السادات:
وكان واضحاً منذ البداية، أن مجلس الشورى (الغرفة البرلمانية الثانية) هو برلمان شكلي، قيمته فقط في "الوجاهة الاجتماعية" للنواب، وأن السادات المغرم بكل ما يأتي من الغرب؛ استورد الفكرة من هناك، وهدفه الأساسي استحداث مؤسسة للقيام على أمر المؤسسات الصحفية القومية، تبدو من حيث الشكل مؤسسة منتخبة، ومن حيث الواقع فإن الأعضاء شبه معينون، فالرئيس يعين الثلث، ومن ينجحون في الانتخابات هم مرشحو الحزب الحاكم. وكانت المعارضة تعزف عن خوض انتخابات مجلس الشورى لاتساع الدوائر، فثلاث دوائر يمثلها ستة نواب في مجلس الشعب، تختزل في دائرة واحدة في الشورى يمثلها نائبان، فضلاً عن أن اختصاصه أفقده قيمة البرلمان، وجعله أقرب للمكلمة. ولا يملك أعضاء مجلس الشوري استجواب الوزراء، وهم لا يناقشون كل التشريعات، فقد أناط القانون بالمجلس فقط مناقشة القوانين المكملة للدستور. وعند مناقشة قانون الجمعيات، نسوا ارساله إليه، فكان الحكم بعدم دستوريته لهذا السبب. فوزير العدل "فاروق سيف النصر"، الذي حدد على سبيل الحصر "القوانين المكملة للدستور" في حكم شهير إبان رئاسته للمحكمة الدستورية العليا، لم ينتبه إلى أن قانون الجمعيات من بين هذه القوانين بحسب حكمه، ونسي هذا عندما أصبح وزيراً!
كان الإجماع منعقداً على أن هدف السادات من استحداث مجلس الشورى، هو استحداث كيان للقيام بدور المالك بالنسبة للمؤسسات الصحفية القومية، وبالشكل الذي يمكن الرئيس منها، وبما يتمشى مع ديمقراطية الشكل التي أخذ بها.
الحزب الواحد:
عندما صدر قانون تأميم الصحافة في سنة 1960، جعل تبعيتها للاتحاد القومي، ثم الاتحاد الاشتراكي (التنظيم السياسي الوحيد) والذي كان يتشكل برئاسة الرئيس، لكن السادات ألغى الحزب الواحد وأخذ بالتعددية المقيدة، فكانت المنابر ثم الأحزاب السياسية، وكان مجلس الشورى، الذي استمر بعد الثورة، وتم النص عليه في دستور سنة 2012، في عهد الرئيس محمد مرسي، لكن في الوقت ذاته تم النص على هيئتين للصحافة والإعلام، إحداهما تشرف على المؤسسات الصحفية القومية، والثانية تقوم مقام المجلس الأعلى للصحافة، مع بقاء منصب وزير الإعلام، الذي ألغي في عهد السيسي باستحداث ثلاث هيئات إعلامية في دستور الانقلاب في 2014. ويبدو أن هناك رغبة جامحة للعودة إلى مرحلة "الغرفة الثانية" القائمة شكلاً على المؤسسات الصحفية القومية، مع عودة منصب وزير الإعلام!
عندما عرفت من مصادري بأن تعديل الدستور سيشمل عودة الغرفة الثانية تحت لافتة مجلس الشيوخ، تم تجريب صدق المعلومة، من خلال بقاء الحال على ما هو عليه في الهيئات الاعلامية الثلاث (المجلس الأعلى للإعلام، والهيئة الوطنية للإعلام، والهيئات الوطنية للصحافة). وكان مقرراً إعادة تشكيلها بعد صور القوانين الجديدة الخاصة بها، وتم بالفعل ترشيح من يشغلون المواقع في التشكيل الجديد، ثم تم العدول عن هذا، وإذا كان القانون الذي نشر في الجريدة الرسمية في سنة 27 آب/ أغسطس سنة 2018، نص على صدور اللائحة التنفيذية خلال ثلاثة أشهر من تاريخ العمل بهذا القانون، فكان لافتاً أن هذا النص تم تعطيله، على نحو كاشف بأن القوم عدلوا عن هذا الأمر برمته، فطموح السيسي هو العودة إلى عهد ما قبل ثورة يناير!
وتبدى هذا من خلال سلطاته الكهنوتية في التعديلات المقترحة، والذي كان مقرراً أن تجرى في آذار/ مارس المقبل، لكن بتأخر الإجراءات لتبدأ في شهر شباط/ فبراير الجاري، فالمعنى أنها قد تتأخر لتجري في حدود أيار/ مايو أو حزيران/ يونيو، في تعديلات تستهدف أن يبقى لدورتين تاليتين. وقد احتاط لأي طعن، فكان النص في التعديلات على حقه في الترشيح بعد انتهاء ولايته الحالية في 2022، بعد أن مدت التعديلات من عمر الدورة لتكون ست سنوات بدلاً من أربع سنين!
الكاهن والفرعون
وهي تعديلات تمكنه من أن يكون فرعوناً بنصوص دستورية، فحتى منصب النائب العام، الذي هو منصب غير محدد المدة، ولحد بلوغ السن القانونية لشاغله، جاء النص في التعديلات بأن يكون لأربع سنوات، فلم يكفه أن يكون فرعوناً، وإنما استحوذ على مهنة الكاهن الذي كان يلازم الفرعون!
وإذا كانت التعديلات الدستورية قد استحدثت منصب نائب الرئيس، وجعلت اختياره نائبين سلطة جوازية له، فقد جرد بنص تال شاغل المنصب، مما يمكن أن يخيف السيسي، فهو يخلفه إذا عجز عن القيام بوظيفته، فإذا لم يوجد نائب له، فإن رئيس الوزراء هو من يخلفه، فقد احتاط من الانقلاب عليه، فالرئيس المؤقت لا يجوز له خوض الانتخابات الرئاسية!
ثم أنه مكن الجيش من الدولة بشكل غير مسبوق، بالنص على أن صون الديمقراطية وحماية الدستور هو أمر معقود للقوات المسلحة، التي يعين هو قياداتها.
لا بأس، كان مبارك حريصاً على أن يستمر المشير محمد حسين طنطاوي وزيراً للدفاع، رغم مرضه ورغم تقديمه لاستقالته أكثر من مرة، فالرجل لسنه ومرضه وطبيعة شخصيته لا رغبة له في شيء، وهو موظف مطيع لسيده الأعلى!
وكان طنطاوي يفتقد للنفوذ داخل المؤسسة العسكرية، فقد كان يشغل منصب رئيس أركان الجيش من لم يكن على وفاق معه أبداً، وهو الفريق سامي عنان!
وفي المقابل كان اللواء عمر سلمان، مديراً للمخابرات العامة، وبينه والمشير ود مفقود، ثم يسمح لمحافظ القاهرة عمر عبد الآخر بأن يعامل وزير الدفاع كما لو كان رئيساً لحي تابع له على الهواء مباشرة؛ عندما انهارت عمارة "كاملة" في مصر الجديدة!
ثم يحرضه على رئيس الوزراء كمال الجنزوري: كيف تسمح له أن يقول لك في اجتماعات مجلس الوزراء: "يا حسين"، كما لو كنت بواباً في عمارته، قل له أن اسمك "سيادة المشير"، وعندما يفعل، يكتشف في لحظة معينة أن مبارك يتلاعب به، فماذا كان بإمكانه أن يفعل إلا أن يعيد الكرة من جديد بتقديم استقالاته لأنه مريض، ويريد أن يخلد للراحة، فيتمسك به مبارك لهذا!
البقرة الضاحكة:
من كان يظن أن "حسين" هذا هو من يخلف مبارك في الحكم، على يد ثورة أجبرته على التنحي؟!
ومن كان يتصور أن مبارك نفسه، سيخلف السادات، وهو الذي كان لا يدري ويدري أنه لا يدري، وكان مسخرة للسادات وأصدقائه والمقربين منه، وقد اتخذوه سخرية، وأحدهم أطلق عليه وصف "البقرة الضاحكة"، وانتشر في القطر المصري كله.. من كان يدري وقتها أن "البقرة الضاحكة" هذه ستحكم مصر لثلاثين سنة متصلة، وهو ما لم يتحقق لرئيس من قبل؟!
كان الجنرال الباكستاني ضياء الحق يخطط للبقاء في السلطة طويلاً، لكنه في ذروة التخطيط مات، وكتب الراحل "خالد محمد خالد" مقالاً مؤثراً عنوانه: وقال إني باق هنا.. وقالت الأقدار بل هناك"!
فكم من ملك لك رُفعت له علامات.. فلما علا مات!
سبحان من له الدوام.
أضف تعليقك