بقلم: عبد الرحمن يوسف
يا لها من تعديلات دستورية تلك التي تجرى تحت ظلال المقصلة... يا لها من ديمقراطية تلك التي يختار فيها الناس بين الشنق أو التصويت بنعم!
وكما هو متوقع، سار قطار التعديلات الدستورية بسرعة فائقة، فالقابع في القصر مرعوب، يحاول استغلال البرلمان الحالي لضمان بقائه في السلطة لأمد طويل، وبرلمان صنعته المخابرات هو خير من يمدد له، إنه (بلا أي مبالغة) أقذر برلمان في تاريخ مصر (وكم هو قذر تاريخ البرلمانات المصرية بعد انقلاب 1954).
ستُمكن تلك التعديلات "سيسي" من البقاء في الحكم إلى عام 2034م، وسيصبح جميع قضاة مصر مجرد موظفين لديه، وسيصبح الجيش حامي حمى الدولة المزعومة، وسيصبح من حق أزلام الرئيس التنازل عن أي بقعة من أراضي الوطن (لإتمام صفقة القرن أو لأغراض الاستثمار أو لمآرب أخرى) دون الرجوع للأمة باستفتاء، ودون أدنى شبهة عدم مشروعية.
* * *
انطلاق قطار التعديلات الدستورية بهذه السرعة الجنونية كان متوقعا، ولكن غير المتوقع هو وجود مقاومة واضحة لهذه التعديلات. فبعض أعضاء لجنة الخمسين جاهروا برفضهم لها (الفنان خالد يوسف، والدكتور كمال الهلباوي، والدكتور عبد الجليل مصطفى، على سبيل المثال لا الحصر)، وبعضهم سكت، أما من أيَّد فلا وزن لهم.
رَفْضُ القضاة التعديلات وإعلانهم لما يشبه نية "المقاومة" يربك الحسابات قليلا.
رَفْضُ القضاة ردَّ عليه "سيسي" بإعدام ثلاثة من شباب مصر البريء، في القضية التي عرفت باسم "قضية ابن المستشار"، وهي قضية جنائية لا علاقة لها بالسياسة، ولكن سيَّسها النظام، لكي تصبح وكأنها شكل من أشكال الدفاع عن القضاة من كل يد "آثمة" تمتد بالأذى.
يجامل "سيسي" القضاة بأرواح أبنائنا، وفي الوقت نفسه يرسل رسائل الترهيب إلى جماعة الإخوان بتعليق هؤلاء الأبرياء على المشانق (لا تشتبكوا مع معركة التعديلات الدستورية... وإلا)!
* * *
لقد كتبت لجنة الخمسين هذا الدستور "بنوايا حسنة"... قالها السيكوباتي. كان كثير منهم يظن أن الدستور سيطبق!
واليوم... ها هو غاصب عميل يضمر الشر للأمة كلها يكتب دستور النوايا السيئة!
يبدو أن المقاطعة هي الخيار المريح للدولة، الناس لا يذهبون للجان، والنظام يزور ما شاء له أن يزور، ثم يعلن النتائج التي ترضي ذلك "السيكوباتي" المنتفخ بهطل العظمة، أما الانتقادات الخارجية فتتكفل بها إسرائيل، ومشتريات السلاح، ومبيعات المواقف!
* * *
ما واجبنا كمصريين وطنيين؟
هذه التعديلات مطلب رجل "سيكوباتي" واحد، ومقاومته لا بد أن تكون بعزله وإبعاده عن أكبر قدر ممكن من أنصاره داخل مؤسسات الدولة، بعد أن فقد ظهيره الشعبي بالكامل، ولم يبق معه إلا قلة مغيبة أو بعض أصحاب المصالح.
لا بد من دعم كل من يقول لا من القضاة ومن أعضاء لجنة الخمسين، ومن أي مؤسسة من المؤسسات داخل الدولة.
بعد ذلك يأتي التحدي الكبير، وهو توحيد الموقف الوطني المصري في كيفية تعامل جماهير الشعب مع التعديلات المزعومة.
في رأي كثيرين المقاطعة هي الحل الوحيد، وفي رأي آخرين التصويت بلا هو العمل المجدي في هذه المرحلة.
والحقيقة أن التصرف السليم في هذه اللحظة هو توحيد موقف أكبر كتلة من الشعب، بحيث تصبح المقاطعة عملا منظما، أو تصبح المشاركة خطة متكاملة واضحة يشارك فيها الملايين، وتكون بداية مرحلة جديدة في العمل الوطني في سبيل إسقاط الدكتاتورية.
* * *
ولا بد من الانتباه لثلاث ملاحظات:
الملاحظة الأولى: أن الهدف من خوض المعركة هو الانتصار في المعركة التالية (ليس معروفا موعدها بدقة).
ذلك أن اقتراب موعد الاستفتاء لن يتيح الفرصة للانتصار في معركة التعديلات، ولكنه يتيح فرصة تسديد طعنة جديدة في شرعية "سيسي"، فيصبح ضبعا جريحا يمكن الإجهاز عليه بطعنة أخرى، خاصة مع استمرار نزيفه.
الملاحظة الثانية: أن الانتصار في معركة التعديلات معناه تحالف الخصوم، وخصوم الأمس كتلة غير متجانسة من البشر، ففيهم الإسلامي، وفيهم الليبرالي واليساري، وفيهم المستقل، وفيهم المتحزب، وفيهم من هو خارج مصر، وفيهم من هو في الداخل... ولكن يجمع كل هؤلاء أنهم يكرهون صورة مصر السوداء التي وصلت إليها على يد هذا السيكوباتي.
قد يختلف هؤلاء في معنى الدولة الديمقراطية، ولكنهم يعلمون جيدا شكل دولة الاستبداد، وقد يختلفون في حدود حرية التعبير والاعتقاد، ولكنهم يعلمون معنى القتل خارج القانون وحبس الصحفيين.
إن هذه الكتلة العريضة من رافضي حكم "سيسي" سيجمعها رفضها وكرهها لحكم العسكر، قبل أن يجمعها حب الوطن والرغبة في الديمقراطية.
الملاحظة الثالثة: أن خوض معركة التعديلات الدستورية لا تعني الاعتراف بدستور الاستبداد، فهو مفروض على الجميع شئنا أم أبينا، بل تعني أننا قررنا أن نقتل الأفعى بسمها، أو بسمّ أفعى من فصيلتها.
* * *
في النهاية يبقى تساؤل مفتوح: ما دور معارضة الداخل؟ وما دور المعارضين في الخارج؟ وكيف يمكن خلق تواصل وتكامل بين الجناحين؟
الإجابة باختصار... لا بد من تكامل بين الجناحين، وهناك بعض المهمات لا يمكن أن ينجزها إلا من هم داخل مصر، وهناك بعض الواجبات لا يمكن أن تتم إلا من الخارج... ولعلي أعود لهذا الموضوع بمزيد من الشرح قريبا.
أضف تعليقك