حوار مع الأستاذ سيف الإسلام البنا في ذكرى والده
من أقوال الإمام الشهيد "حسن البنا" رحمه الله: "إذا وُجد الرجل المؤمن وُجدت معه عوامل النجاح"..
يقول الأستاذ "سيف الإسلام" معلِّقًا: إن هذه الجملة أشدُّ ما تنطبق على الإمام نفسه؛ لأن وقته- رضي الله عنه- كان فيه بركة كبيرة، وإن العمل الذي يُستغرق في ساعات كان الله ييسره له في دقائق، ومع توافر الإخلاص يستطيع كل أخ أن يقوم بأعمال جمَّة في وقت يسير.
كان- رحمه الله- مثلاً أعلى في كل ما يصدر عنه؛ لإتقانه وحسن دراسته للقرآن الكريم، ولتمسكه الشديد بسنة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- منذ نشأته الأولى في بيئة دينية وعلمية، وكأنما هيأه الله- سبحانه وتعالى- للدور الذي رسمه له في حياته بعد ذلك.
ونستطيع بعد هذه المقدمة أن نقول إن الإمام "حسن البنا" قد خُلق ليكون قدوةً صالحةً في كل أمر من أموره بما أخذه على نفسه من اتباع سنة رسول الله- صلى الله عليه وسلم.
اهتمامه بأبنائه
وعن اهتمام الإمام الشهيد بأبنائه ورعايته لهم يقول الأستاذ "سيف الإسلام": لا أتزيد أو أبالغ في أمر من الأمور حينما أذكر أن الإمام "حسن البنا" كان رب أسرة مثاليًّا.. منذ أن وعيت لم أشعر يومًا- سواء في طفولتي أو صباي- بأنه قصَّر في العناية بنا أو الاهتمام بأمورنا، بل لعلنا نعجب حينما نشعر أننا لم نصل إلى درجة في مثل هذه العناية.
كان لكل ابن منا من أبنائه حينما يولد (دوسيه) خاص، يكتب فيه الإمام بخطه على وجه الدقة تاريخ ميلاده- ورقم قيده- وتواريخ تطعيمه.
ويحتفظ بجميع الشهادات (الروشتات) الطبية التي تمت معالجته بها، بحيث إذا أصيب أي منا بمرض استطاع أن يقدم للطبيب المعالج هذه الشهادات مسلسلة بتواريخها، ويرفق مع كل شهادة ملحوظة عامة، ثم ما أخذه من دواء ولمدة كم يوم؟ وكم استغرق هذا المرض؟ وهل أكمل الدواء أم لم يكمل؟ وكذلك شهادات الدراسة كان والدي- رحمه الله- يضعها أولاً بأول في هذا الدوسيه مسجلاً عليها بعض الملاحظات، مثل: "سيف" يحتاج إلى التقوية في كذا، وضعيف في كذا.. "وفاء" تحتاج إلى المساعدة في مادة كذا.. وهكذا وبالجملة كان ما يختص بأحد أبنائه.
حسن البنا رب أسرة
كذلك كانت عناية الإمام الشهيد "حسن البنا" بأمور بيته عناية ممتازة، كان يكتب بنفسه الطلبات التي يحتاج إليها المنزل شهريًّا، ويدفعها في أول كل شهر إلى أحد (الإخوان)؛ وهو الحاج "سيد شهاب الدين" صاحب محل البقالة الشهير ليوفر هذه الطلبات في كل شهر.
كان- رحمه الله- عطوفًا إلى أقصى درجة، راعي مشاعر الطفولة في أبنائه بشكل كبير، كان لديه القدرة على جعلنا نطيعه دونما حاجة إلى أمر، وكنا نعتبره- بلا شيء- له هيبة دون رغبة في مخالفته.
وأذكر أنه عرض لي بأن دخول السينما أمر لا يليق بالمسلم، فلم أحاول أن أدخل السينما قط، بل ظللت حتى اليوم لم أدخلها، وهذا من قوة تأثيره وجاذبيته.
الإمام حسن البنا مع أسرته
كان أقصى ما يعاقب به الواحد منا هو قرص الأذن، وفي ذات مرة قرص أذني، وهذا أكبر عقاب وقعه عليَّ- رحمه الله.. قرص أذني في الصباح لخطأ ارتكبته، ولكنه اتصل بي تليفونيًّا في الساعة الحادية عشرة صباحًا ليطمئن علي، وصالحني، وكان لهذا أثر كبير في نفسي.
كان كريمًا مع أبنائه.. أذكر أن كل واحد منا كان يأخذ مصروفًا في سنة 1942م، وسنة 1943م ثلاثة قروش، وهذا مبلغ كان يعتبر كبيرًا في هذا الوقت؛ لأن زملائي في المدرسة لم يكن الواحد يأخذ مصروفًا إلا ربع قرش أو نصف قرش.
تذكرت هذا حينما قرأت في إحدى المجلات واسمها (مسامرات الحبيب) الحديث الذي أجرته مع والدي، ولا زال هذا العدد عندي.. فقد سألته: هل تدخر شيئًا من مرتبك؟
فقال: إني لا أدخر شيئًا لأنني أنفق كل مرتبي.
فسأله المحرر: كم تعطي لأبنائك من مصروف؟
فقال: ثلاثة قروش للواحد.
هذا بالإضافة إلى بعض المبالغ التي كان يعطيها لنا في يوم الجمعة، ويطلب منا توزيعها على بعض الفقراء في المسجد، وقد يكون هذا خمسة قروش أو عشرة قروش لا أذكر هذا بالضبط.
ولعلي أدركت بعد مرحلة معينة من السن أنه- رضي الله عنه وأرضاه- كان يتابع كل تصرفاتي متابعة دقيقة، ولكن دون أن ألاحظ ذلك إلا عندما كبرت، فعندما أستعرض بعض تصرفات الوالد أعرف أنه كان يتابع تصرفاتي.
طريقته في التربية
أذكر أنه في إحدى السنوات نقل جزءًا من مكتبة البيت إلى مقر مجلة الشهاب، واشترى عدة مكتبات جديدة للمنزل، وكان نصيبي من هذا التغيير أن فزت بمكتبة صغيرة أهداها إليَّ الوالد، ومنحني مصروفًا زيادة قدره خمسون قرشًا كل شهر لشراء الكتب بمعرفتي وتكوين مكتبة خاصة بي.
وبحكم سني في ذلك الوقت، فقد اشتريت عدة كتب من (درب الجماميز)، ومنها روايات عن المغامرات البوليسية لـ"أرسين لوبين" و"شارلوك هولمز" وغيرهما، وحينما جاء الوالد متأخرًا بالليل وجدني ساهرًا أقرأ في هذه الروايات باهتمام شديد.. تركني ولم ينهني عن قراءتها، ولكن حينما انتهيت من قراءة هذه الروايات قال: سأعطيك شيئًا أحسن منها، وبدأ يغذيني ببعض الكتب، منها: سيرة الأميرة ذات الهمة، وسيرة عنترة بن شداد، وسيف بن ذي يزن، وبعض روايات البطولة الإسلامية، ثم بعد ذلك دفع إليَّ بكتاب سيرة عمر بن عبدالعزيز- رضي الله عنه وأرضاه- وغيره من الكتب المفيدة، وشعرت في هذه الأثناء أنه يتابع قراءتي بدقة رغم انشغاله بأموره الدعوة.
وكان من عادته- رحمه الله- أن يعتمد في تربيتنا على الأسلوب غير المباشر؛ أسلوب التعريض دون الطلب.. وكان في كثير من الأوقات، وخصوصًا في رمضان، إذا حضر المنزل واستراح قليلاً يستيقظ قبل المغرب بساعة تقريبًا، ويدعوني أنا والأخت الكبرى "وفاء" بدعوى أن نُسمِّع له القرآن الكريم.. فكنا نمسك المصحف، وننظر فيه، ووالدي يُسمعنا.. وكان قد يسهو علينا أن نتابعه، فكان يشير إلى الصفحة التي يقرأ فيها ويقول: "أنا أقرأ هنا".. وقد أدركت لما كبرت أن غرضه- رحمه الله- من هذا العمل هو تعليمنا من حيث لا ندري ولا نشعر كيف نتلو القرآن! وأذكر وأنا صغير في المرحلة الابتدائية أن والدي- رحمه الله- قال: "على كل فرد أن يتقن حرفة، وكان- رحمه الله- يتقن إصلاح الساعات، فأخذني ذات مرة في الإجازة الصيفية، ودفع بي إلى مطبعة (الإخوان المسلمين)، وطلب من مديرها الأخ "سيد طه" أن يتولاني برعايته، ويعلمني شيئًا؛ وذلك لحرصه على تطبيق السنة: "إن الله يحب المؤمن المحترف"، ولا أتجاوز إذا قلت: "إن هذه الفترة القصيرة نفعتني كثيرًا في حياتي العملية بعد ذلك".
حسن البنا.. الزوج وإكرامه لأهل زوجته
ويضيف الأخ الأستاذ "أحمد سيف الإسلام حسن البنا": لقد كان والدي- رحمه الله- يحرص على تطبيق السنة تطبيقًا متناهيًا، وحينما تزوج حرص- رضي الله عنه- على أن يعرف أقارب زوجته فردًا فردًا، وكل من يربطه بزوجه صلة رحم، وأحصاهم عدًّا، وزارهم جميعًا، ووصلهم جميعًا رغم بُعدِ أماكنهم، أو بعدهم بعضهم عن البعض بسبب الظروف العائلية المتوارثة كأن يكونوا ليسوا أشقاء مثلاً.. ولكن الوالد- رحمه الله- كان يفاجئ والدتي بأنه اليوم قد زار (فلانًا)، وهذا يمت لها بصلة القرابة عن طريق (فلان) لأنه ابن فلان، وهذا يرجع إلى دقته المتناهية في الالتزام بسنة رسول الله- صلى الله عليه وسلم.
كان- رحمه الله- رقيق المشاعر.. كان يعود للمنزل دائمًا متأخرًا بعد انتهاء العمل مع (الإخوان)، وأذكر أن مفتاح المنزل كان طويلاً.. وكنت أسهر في بعض الليالي للقراءة، فكان- رحمه الله- يفتح الباب بالمفتاح الذي معه بمنتهى الدقة والهدوء؛ حتى لا يزعج أحدًا من النائمين، فكنت أفاجأ بدخوله.
كان يدخل البيت فيطمئن على غطاء كل الأبناء، وقد يتناول عشاءه الذي يكون معدًّا على المائدة ومغطى، دون أن يحرص على إيقاظ أمي أو أحدًا من أهل البيت لحضوره في هذه الساعة المتأخرة من الليل.
معاملته مع الخادمة
كان يتواجد في المنزل خادمة صغيرة تساعد الوالدة في شئون المنزل.. وكان لكل منا سرير مستقل ودرج مستقل في دولاب واحد.. وكان للخادمة أيضًا سرير مستقل ودرج في نفس الدولاب، وكان أبي يكلف الشقيقة الكبرى الأخت "وفاء" بأن تعلم هذه الخادمة في المساء القراءة والكتابة، وأن تعلمها الصلاة.
وأذكر أن أبي في إحدى المرات قد ذكر لنا- عندما عاد إلى المنزل- أنه قد زار (فلانة) إحدى الخادمات بمنزلها بعد زواجها، وكانت قد خدمت بمنزلنا فترة من الزمن، وذلك حينما كان يزور بلدتها في المنوفية.
حوار مع الوالد
ويختتم الأستاذ "سيف الإسلام" ذكرياته عن حياة والده بخاصة بقصة حوار دار بينه وبين والده على الغداء فيقول:
لقد عاصرت والدي الإمام الشهيد- رحمه الله- لمدة عامين وأنا طالب بالمرحلة الثانوية، وكان دخول المرحلة الثانوية هو الميلاد السياسي للشاب في ذلك الوقت؛ لأنه يستطيع أن يشترك في الجمعيات أو الأحزاب، وأن يطبع كارت يكتب عليه اسمه وتحته لقب طالب ثانوي، وأن يشترك في المظاهرات، وقد انضممت إلى قسم الطلاب في هذه المرحلة، وأذكر أن الذي كان يرأسه في ذلك الوقت الأستاذ "فريد عبدالخالق"، وكان زملائي في القسم مجموعة من طلاب مدرسة (بمباقادن) الثانوية، وكان مقرها بشارع إلهامي بالجمالية بالقرب من المركز العام للإخوان المسلمين، وكنت بطبيعة الحال أشارك مع الإخوة في هذه المدرسة في نشاط قسم الطلاب، وكنا ندير بالمدرسة مناقشات حول قضايا، معظمها في المسألة الوطنية، وقضية وادي النيل، وإخراج الإنجليز من مصر والسودان، والوحدة بين مصر والسودان.
وحينما كنت أعود للمنزل وأتناول الغداء مع الوالد كنت أسأله عما يجري ويحدث في المدرسة من مناقشات.
وأذكر أنني سألته مرة سؤالاً صريحًا: وماذا سنفعل مع الإنجليز إذا لم يخرجوا من مصر؟ فقال الوالد: سنرسلك مع كتيبة لإخراجهم بالقوة، وقد رددت عليه حينئذ ببيت عنترة بعد أن غيَّرت فيه الضمير، وقلت له:
وسيفك كان في الهيجا طبيبًا
يداوي رأس من يشكو الصداع
وقد نلت في ذلك الوقت قبلة على جبيني لا زلت أتحسس موضعها حتى الآن.
فقد كنت على وعي تام بما يجري في هذا الوقت من أحداث وأمور سياسية، من واقع النضج السياسي الذي كانت تعيشه المدرسة الثانوية آنذاك، والتي كانت تتمثل فيها كافة طوائف الأحزاب الموجودة على الساحة في ذلك الوقت، وأبرزهم (الإخوان) والوفد..
لقد كان طلاب المدارس الثانوية في ذلك الوقت يتجاوبون بشدة مع الأحداث التي تجري في مصر والعالم الإسلامي، حتى تسارع المدرسة الثانوية التجاوب معه بالإضرابات والمظاهرات.
رجل رباني
• بعد كل ذلك، هل أصبح لديك قدر كبير بمعرفة الإمام البنا؟
مع هذا كله لا.... لا أكاد أعرفه، فمعرفتي به قاصرة.
• لماذا؟
أعتقد أن البنا رجل رباني، أفاض الله تعالى عليه بكثير من المواهب والملكات، فأوصله إخلاصه لله، وفضل الله عليه إلى هذه المنزلة، وأعتقد أنه لا يعرف حق قدره إلا الله الذي وهبه هذه الملكات.
وإيماني بأن البنا رجل رباني ناتج عن تجربة شخصية، ففي الأيام الأخيرة شعر الإمام البنا بقرب النهاية، فجمعني وأختي أم أيمن وأوصاني بتوصية مشددة، وقبلها أعطاني مجموعة من الكتب نصحني بقراءتها، وفهمت منها معاني كثيرة لم يكن الوقت يسعف البنا أن يقولها لي. وما قاله البنا لي في وصيته حدث بالضبط، وكانت مواقف محيرة، فوجدت في وصيته ـ رحمه الله ـ الإجابة عما ينبغي أن أفعله في هذه المواقف، وقد حرصت على تنفيذ الوصية وكانت قارب نجاة لي.
• استطاع البنا في فترة وجيزة تأسيس كبرى الحركات الإسلامية، وأصبح مجدد الإسلام في القرن الرابع عشر الهجري، هل يمكن أن تحدد لنا جوانب تلك الشخصية الفذة التي قامت بذلك؟
السؤال يحتاج إلى كلام كثير، ولكن سأذكر لك بعضًا من جوانب شخصية البنا التي جعلته في هذه المكانة ومنها:
أن البنا بداية قدم للمجتمع المصري والعربي والإسلامي عملاً نافعًا جدًا لهذه الأمة، قلما يأتي به شخص بمفرده.
فهو منذ نشأته تحدى الهجمة الاستعمارية الغربية على الحضارة الإسلامية، وتوعدها وهو شاب أنه سيصدها، وأن يدعو إلى الإسلام كبديل للنهضة، ولم يكن له معين في ذلك الوقت إلا إيمانه بالله، وجهاده في سبيل هذه الدعوة، فلقد ضعفت الخلافة العثمانية،ثم سقطت، واستغل الغرب هذا الضعف والسقوط ليأتي بمؤسساته وأمواله وجهوده على مدار قرن من الزمان؛ لتغريب الأمة وطمس هويتها العربية والإسلامية، فجاء حسن البنا؛ لينشئ دعوة الإخوان المسلمين التي واجهت هذا كله، وأفشلته دون سند من دولة أجنبية أو مال أو عصبية جاهلية، وهذا مثل فريد لقوة الإيمان بالله سبحانه وتعالى، ومن هنا نفهم كلمة الإمام الشهيد "إذا وجد المؤمن وجدت معه أسباب النجاح"، ولذلك ربّى الإمام البنا جيلاً جديدًا في مصر قاوم الاستعمار البريطاني، وقاوم الاستيطان الإسرائيلي، وهو الذي أحدث تغييرًا جذريًا في تاريخ مصر الحديث.
ثانيًا: شخصية الإمام البنا وملكاته ومواهبه فريدة ومتنوعة، وقلمًا تجتمع في شخص واحد، فهو عاطفي وواقعي أيضًا، نظري وحركي، وقس على ذلك.
كل هذه المعاني تعطي للبنا عمقًا شديدًا، إضافة إلى أن حياته كلها كانت خطًا واحدًا من بدايتها إلى نهايتها في سبيل الله والدعوة الإسلامية، سخر فيها قلمه ولسانه وجهوده ودعوته لهذا الخط منذ أن نشأ إلى أن استشهد، فالبنا صناعة ربانية، عافاه الله من التخبط بين المذاهب قبل هدايته للدعوة الربانية، وكان أداء البنا في كل أعماله مثاليًا وقدوة.
ثالثًا: طهارة البنا كزعيم سياسي وقائد لحركة إسلامية طهارة مثالية، فما كتب عنه في الخارج وخصوصًا في الوثائق البريطانية ومن تخوف الاستعمار البريطاني منه ومن حركة الإخوان المسلمين دليل صدق على ذلك.
رابعًا: صدقه أيضًا مع أتباعه ومصارحتهم من أول يوم بأهداف ومرامي هذه الدعوة، وبأنهم سيتعرضون إذا انتسبوا إليها للامتحان والابتلاء منذ أول يوم، ولم يضلل الجماهير ويسوقها إلى عمل يحقق به مصلحته الخاصة.
الإمام أديبًا
• أحد النقاد المتخصصين ذكر أن الإمام البنا كان أديبًا إسلاميًا فذًا، ولكن شهرته كداعية وزعيم إسلامي غلبت عليه فما رأيك؟
حقًا، وأنا أرى أن أحد أهم جوانب شخصية البنا الفذة أنه كان أديبًا إسلاميًا، بل مؤسسًا للأدب الإسلامي في العصر الحديث، وقد قمت بجمع أعماله الأدبية البحتة في كتاب خاص سيصدر قريبًا، وأهم ما يميز البنا صدقه الفني فلم يعبر إلا عما يحسه ويشعر به وهو الإسلام.
فهو يستقي أدبه من القرآن الكريم وبلاغته، وهذا الأدب الذي كنبه البنا أنشأ مدرسة أدبية جديدة بحكم دعوته لأفكار معينة حملها مجموعة من الناس، ودعوا إليها وعبروا عنها تعبيرًا مميزًا، فنشأت المدرسة التي كانت صدى لفكر البنا.
ومن رموز تلك المدرسة كل أدباء وشعراء الإخوان، بل امتد تأثير المدرسة إلى أدباء العصر كله، فاتجهوا إلى مسايرة التيار الإسلامي في كتاباتهم؛ لأن الكتاب الإسلامي بحكم الواقع أصبح الأكثر رواجًا وتوزيعًا منذ ذلك الوقت وحتى الآن.
كما أن مؤرخي الأدب المعاصرين كتبوا عام 1953 أن أكبر ظاهرة أثرت في الأدب الحديث هو ظهور جماعة الإخوان المسلمين.
• كيف استطاع البنا الوصول سريعًا إلى قلوب الناس، وإقناع الآخرين بفكرته؟
كان - رحمه الله- إمامًا في الخطابة الدينية، ويكفي أن تعلم أن الخطب الدينية قبل الإخوان كانت تقرأ من الكتب القديمة، ومنفصلة تمامًا عن الواقع المعايش.
وعندما جاء البنا ومدرسة الإخوان ظهر أسلوب جديد في الخطابة التي جمعت بين الديني والسياسي، أو الواقع الذي يمس الحياة المعاصرة وتتعرض لمشاكلها، ومن ثم نستطيع أن نقول أن الإخوان مدرسة خطابية، كما أن الخطابة مع الإخوان لم تعد قاصرة على الأزهريين، بل ذهبت إلى الجامعيين كذلك.
واذكر أن مجلة آخر ساعة أجرت استطلاعًا عام 1947 عن أفضل خطباء العصر فكان حسن البنا هو أفضلهم طبقًا للاستطلاع.
عاطفة جياشة
• كيف كانت علاقة البنا الشخصية بإخوانه؟
كان ـ رحمه الله ـ يحب إخوانه ويحمل لهم عاطفة جياشة، ويحترم في كل أخ ارتباطه بالدعوة وأدائه للبيعة، واستعداده للتضحية في سبيل دينه ودعوته، وهذا واضح في كثير من كتاباته فكان يمدح الرعيل الأول من الجماعة الذين بذلوا جهدهم من أجل الجماعة، فقد قال عنهم في مذكراته "... وبمثل هذه التصرفات التي تذكرك بصحابة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قامت دعوة الإخوان المسلمين".
وأذكر لك مثالاً عن حبه وتقديره لإخوانه رأيته بنفسي، وذلك عندما جاء مندوب مجلة المصور عام 1946 ليجري حوارًا مع الوالد بعنوان "يوم في حياة الشيخ حسن البنا"، قام المصور بالتقاط صورة عفوية له وأحد الإخوان يعطيه سماعة التليفون لكي يرد عليه، فرفض الوالد نشر الصورة، وبعث خطابًا إلى المجلة مؤكدًا لهم فيها أنه ليس في الإخوان جندي وقائد فكلنا جنود في سبيل الله.
كما كان ـ رحمه الله ـ صادقًأ حتى مع مخالفيه، فكان عف اللسان معهم، ولا تستطيع أن تجد كلمة نابية واحدة في تراث البنا، وعندما اعترض البعض على هذا الأسلوب تجاه المخالفين كتب مقالاً أكد فيه وجوب التمسك بهذا الأسلوب.
وكان ـ رحمه الله ـ ذا نظرة ثاقبة في كثير من القضايا، أذكر أنه كتب مقالاً عام 1945 بعنوان "نداء إلى شعب المملكة المتحدة" نصح فيه بريطانيا أن تجلو عن مصر، وأن تخرج من المنطقة وهي صديقة لشعوبها الذين عاونوها في الحرب العالمية الثانية قبل أن تأتي الولايات المتحدة لتخرجها من هذه المنطقة بأسلوب أو بآخر، ولو أخذت بريطانيا بهذه النصيحة لما بكى "انطوني ايدن" عندما أجبره الأمريكان على الخروج من مصر بعد العدوان الثلاثي عام 1956.
وكذلك مقالاته عن سيناء والسودان، وعن توقعه قيام ثورة في مصر إذا لم تنصلح الأحوال، ومطالبته عام 1942 بتدريب مرشدين مصريين لقناة السويس؛ حتى لا نكون في قبضة الأجانب إذا حدثت أزمة، وهو ما حدث فعلاً عام 1956, وهذا قليل من كثير.
أول مقال
• أخيرًا كيف كان البنا في بيته بوصفك ابنه الذي عايشه أكثر من 14عامًا؟
كان ـ رحمه الله ـ رب أسرة مثالي لم يقصر في أي حق من حقوق هذه الأسرة، وأول مقال كتبه كان بعنوان "الدعوة إلى الله فريضة"، والثاني "لمن توجه الدعوة" أكد فيه أن الأسرة هي رقم واحد ممن توجه الدعوة إليهم، مستشهدًا بقوله تعالى: "وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ ".
• هل صحيح ما ذكره البعض أن البنا ترك أمر دفن ابنه لوالده لانشغاله بأمور الدعوة؟
لم يحدث؛ فالإمام كان يحسن إحسانًا شديدًا في استغلال وقته، وكان الله تعالى يبارك له في الوقت بحكم الطاقة الروحية العالية التي كان يتمتع بها، والتأثير الرهيب في نفوس كل من يتعامل معه.
ولم يقصر في حق أسرته فكان رحمه الله يجعل لكل منّا ملفًا خاصًا به منذ ولادته، يضع فيه شهادة ميلاده، ومواعيد تطعيمه والروشتات والتذاكر الطبية، والأدوية التي تناولها ومدة المرض، والشهادات الدراسية وتعليقاته عليها، وكان يوفر لبيته ما يحتاجه، أما ما قيل أنه عندما توفي أحد أبنائه تركه لوالده ليدفنه فلم يحدث؛ لأنه بالفعل توفي لأبي طفل صغير ولكنه دفنه بنفسه.
إخوان أون لاين 20/2/2003م
أضف تعليقك