لقد كان من أكبر أسباب التوفيق الذي أصابه الإمام هو أن الله وضع يده على التشخيص الصحيح لعلة المسلمين وألهمه في نفس الوقت الطريق إلى العلاج الصحيح.
لقد اهتدى الإمام بتوفيق من الله إلى أن علَّة المسلمين في العصر الحاضر ليست من النوع البسيط الذي يسهل التعامل معه بالأسلوب السهل البسيط، وإنما هي من النوع المعقَّد الذي نما وتفاقم شرُّه خلال قرون طويلة ونتيجة ظروف كثيرة بعضها قديم وبعضها طارئ، ورأى أن هذه الظروف متشعِّبة؛ منها ما هو ثقافي ومنها ما هو سياسي ومنها ما هو اجتماعي، منها ما هو داخلي ومنها ما هو خارجي.
ولخَّص الإمام العلَّة في أنها الانصراف عن الكتاب والسنة، ولخَّص العلاج على أنه العودة إلى الكتاب والسنة، لكن الإمام لم يتصور العلة وعلاجها في صورة آلية مثالية، لم يتصور المسألة على أنها زرٌّ معطَّل في آلة يكفي إصلاحه لتعاود الآلة نشاطها من جديد، ولم يفهم الكتاب والسنة على أنهما نصوص إلهية تملك في نفسها قدرة غيبية على العمل والإصلاح، وإنما فهم الكتاب والسنة على أنهما طريقا عمل ودليلا عمل طويل متشعِّب، لا بد أن تترابط أجزاؤه وتستحكم حلقاته في مجالات كثيرة متعددة هي نفسها مجالات الحياة الإنسانية على اتساعها.
وقد رأى الإمام بتوفيق الله ثم ببصيرته النافذة أن الحياة الإنسانية وحدة واحدة، يؤثر بعضها في بعض، ويؤخذ بعضها من بعض، وتنبَّه إلى أن منهج الإسلام إنما قام على أساس اعتبار هذه الوحدة، وتعامل معها ككل.
ورأى الإمام أن العلة قد شملت جوانب الحياة الإسلامية كلها وأفسدتها كلها، ورأى أن العودة للكتاب والسنة إنما تعني جهدًا متشعِّبًا لإصلاح الفساد الذي أصاب هذه الحياة من جوانبها المختلفة.
ورأى- وكان ذلك بتوفيق من الله- أن مهمة الداعية ليست محاكمة الناس وإدانتهم، وإنما مهمته أن يكون طبيبًا يشخِّص العلة ويغري المريض بتناول العلاج، بتنبيهه إلى الخطر من جانب، وتحبيبه في الدواء من جانب آخر.
لم يطالب الناس بمستوى الصحابة، وإنما فتح عيون الناس على ما في حياة الصحابة من أسوة وقدوة.
لم يسلك مسالك الجدل الذي يثير الخصومة ويدفع إلى العناد ويثير الأحقاد، وإنما نبَّه إلى الصحيح ووضح سبله وأغرى به ودعا إليه.
دعا إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وأخذ بأيدي الغافلين في رحمة وعطف، ووضع أيديهم على مكامن العلة؛ ليلمسوها بأنفسهم في وداعة للنتائج.
لم يجلس على منبرٍ عالٍ يصيح منه على العصاة والمنحرفين ويصبُّ عليهم اللعنات، وإنما سعى إلى الناس في مواقع غفلتهم وقعودهم، يعرض عليهم بضاعته، وذهب إلى أسواقهم ومجامعهم، وركب إليهم في قراهم وكفورهم.
يخاطبهم بما يفهمون، ويجعل لكل مقام مقالاً، ويذكِّرهم من غير زجر، ويعلمهم من غير استعلاء، ويعينهم بنفسه على أنفسهم، ويأسوهم بنفسه وماله بطاقة لا تنتظر جزاءً ولا شكورًا، وإنما تعطي في تجرد وتواضع، ثم هو في الوقت نفسه يقبل الأعذار، ويستر العورات، ويقبل من كلٍّ على حسب طاقته من العمل والمال، ويحث في نفس الوقت على المزيد من العطاء والبذل، ويقبل من كلٍّ حسب قدراته العقلية واستعداده النفسي، ويحثُّ في نفس الوقت على التعلم والتفقه ومجاهدة النفس.
هذا هو منهجنا..
هذا المنهج هو منهجنا الذي نتحرَّاه في هذا الحديث، وقد نخطئ فيه ونصيب، لكننا نراه هو النهج الأول في الإصلاح والتجديد، وهو منهج يتطلب منا الكثير من الفقه والكثير من الصدق؛ حتى يؤتي ثماره.
ومن أجل ذلك فنحن نحاول أن نعرض على المسلمين تجربة الإسلام؛ لتكون لهم عونًا على فهم حاضرهم وعلى مواجهة مشكلاتهم في إطار سنتهم وتراثهم، خاصةً أن فتنة اليوم لها ملامح متشابهة من فتنة الأمس.
أضف تعليقك